0
لا نكتب عن وعد بلفور بهدف التباكي عليه، لكن من أجل توضيح حجم المؤامرة على فلسطين وعلى الأمة العربية بأسرها من الدولة الأعظم آنذاك واستهدافها عموم المنطقة.

تأتي الذكرى الأليمة هذا العام، والمنطقة العربية تموج بما يشبه وعد بلفور وأخطر، وحالنا في فلسطين وسورية وحتى مصر وليبيا وتونس واليمن وغيرها ليس أفضل مما كان عليه الحال أيام الوعد الأول، ونجد من بيننا من يقدم للعدو الأميركي الصهيوني الرجعي ذات المساندة والتسهيلات على حساب شعوبنا العربية الساعية وراء الحرية والكرامة الإنسانية، كما أن ذات الخداع والتزوير تقوم به تلك القوى والأقلام لتحويل هذا الواقع المؤلم والمرير إلى حالة دائمة تسهل على العدوان مهمته، وتضعنا من جديد في الإطار ذاته الذي يعيد الانتداب والتقسيم الذي نعاني منه حتى اليوم.

 وإذا كان وعد بلفور كان قد ''أعطى من لا يملك لمن لا يستحق''، فإنه حمل معه أطول وأعمق قضية سياسية في تاريخ البشرية، وأكثرها ظلماً وعدواناً، حيث لازالت آثارها السياسية السلبية قائمة، جاعلة المنطقة العربية ساحة صراع مفتوحة منذ قرن وحتى يومنا هذا، نتيجة ما أفرزه هذا الوعد من زرع لكيان سياسي غاصب ''إسرائيل''، وما مثله من جريمة هي بكل المقاييس ''جريمة العصر''، التي تلاقت فيها مصالح الامبريالية العالمية والحركة الصهيونية، والتي نجم عنها تشريد وتهجير الشعب  العربي الفلسطيني على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية.


وكان جلياً أن قرار الحركة الصهيونية، ووزير الخارجية البريطاني فيما بعد، جسّدا ولا يزالان التقاء المصالح الاستعمارية والصهيونية ومخططاتهما البعيدة المدى للوطن العربي والقاضية بإقامة دولة غريبة عن المنطقة وعدوة لسكانها في الجزء الفاصل بين دول الوطن العربي في آسيا والأخرى في أفريقيا، هذه الدولة ستكون رأس جسرٍ للمصالح الاستعمارية في الشرق الأوسط، وحربة في ممارسة العدوان على دوله، كما أنيطت بها مهمة منع الأقطار العربية من الوحدة لأن وحدتها تجعل منها قوة مؤثرة على الساحة الدولية، تم رسم هذا المخطط في مؤتمر كامبل ـ بنرمان في عام 1908 بين الدول الاستعمارية، تتويجاً لقرار المؤتمر الصهيوني، وتمهيداً لوعد بلفور فيما بعد.

 فالخذلان العربي والتآمر الدولي اتخذا شكلا جديداً، فقد تخلى الأول عن صمته الذي كان يحفظ ماء وجه الحكام والأنظمة الناطقين بالعربية الذين باتوا اليوم يجاهرون في التعبير عن تآمرهم وعجزهم عن تقديم أي حل للقضية الفلسطينية بينما دول الاستعمار المتآمرة لم تعد مضطرة لتقديم أي مخطط لتصفية حقوق الفلسطينيين فأتباعها وأزلامها المستعربين يقومون بالمهمة.‏

 والتآمر على القضية الفلسطينية عموماً لم ينقطع يوماً وما زاد الطين بلة إن ذكرى وعد بلفور تتزامن هذا العام مع تآمر عربي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، حيث تتابعت تطورات الأحداث في مدينة القدس المحتلة وتحديداً في باحات المسجد الأقصى بتواصل تدنيس الحرم القدسي وإغلاقه أمام المسلمين وفتح بواباته أمام قطعان المستوطنين المتطرفين وبإشراف وتنظيم مباشريْنِ من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلي...

ولم يكتف بعض الحكام العرب بالصمت المريب على سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي باتت سياسة ثابتة وطالت حتى الأراضي المحتلة عام 67 والتي من شأنها منع إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي، بل من المؤسف أن التآمر العربي يأتي في ظل أنباء عن ضغوط عربية وغربية على السلطة الفلسطينية لإثنائها عن التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، حيث تشير الأنباء إلى أن هناك عواصم عربية وغربية تضغط على السلطة لوقف التحرك باتجاه الأمم المتحدة والطلب من مجلس أمنها التصويت لمصلحة مشروع قرار يعترف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967، إضافة إلى ضغوط مشابهة خلال مؤتمر إعمار غزة مورست على السلطة من قبل عواصم عربية أيضاً تعلن غير ما تخفي من المواقف تجاه الفلسطينيين.


إن التآمر والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني خطوة لا تقل خطورة عن وعد بلفور نفسه، حيث ارتضت بعض الدول العربية أن تكون أدوات من أجل تنفيذ المخططات الصهيو أميركية التي من شأنها حصر الفلسطينيين في كانتونات ومعازل صغيرة محاطة بالمستوطنات الإسرائيلية تعيش تحت رحمة السياسة الإسرائيلية وبالتالي التخلي عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي ضحى من أجلها وقدم ألاف الشهداء لاسترجاعها.‏


التآمر الغربي والعربي والصهيوني على القضية الفلسطينية الذي زاد من معاناة الشعب الفلسطيني، ساهمت فيه أيضاً بعض القوى الفلسطينية المرتبطة بقوى خارجية تعمل جاهدة على شق الصف الفلسطيني، وقد نجحت في ذلك من خلال تكريس الانقسام الحالي بين حركة فتح وحركة حماس لتتشكل حكومتان لشعب ليس لديه دولة، وهي حالة نادرة في العالم، حيث يشكل ذلك ذريعة للكيان الصهيوني لهضم حقوق الشعب الفلسطيني عبر الادعاء بعدم وجود جهة مخولة لاستئناف محادثات السلام من جهة وعدم قدرة الفلسطينيين على إدارة أمورهم،


وبالتالي استغلال ذلك لمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية واستمرار حصار قطاع غزة الذي يسكنه نحو مليون ونصف المليون فلسطيني ومحاولة تهويد القدس، وما الخطط الاستيطانية التي أعلن عنها مؤخرا في القدس والضفة إلا دليلا على استغلال الكيان الصهيوني لحالة التآمر والتواطؤ العربي ولا سيما من دول الخليج وفي مقدمتهم قطر والسعودية وحالة الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني الذي تكرسه الولايات المتحدة الأميركية والقوى الاستعمارية التي تعتبر أمن إسرائيل من أمنها وتعمل جاهدة للتستر على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بمساعدة العملاء والمستعربين وبعض الدول الإقليمية في المنطقة .‏

 في ذكرى وعد بلفور المشؤوم، نتذكر وعوداً كثيرة وُعِدْت بها الحركة الصهيونية وفيما بعد إسرائيل. كل هذه الوعود يجري تنفيذها بدقة متناهية من كافة دول العالم، لكن الوعود التي تقطع للفلسطينيين والعرب يجري التخلي عنها تماماً والانقلاب عليها، أولاً عن آخر.

 لقد وعدت بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي بإقامة دولة فلسطينية، وتخلت عن هذا الوعد. ما أشبه الليلة بالبارحة، فالرؤساء الأميركيون منذ كلينتون ومروراً بجورج بوش الابن وصولاً إلى الرئيس الحالي أوباما تعهدوا بالعمل على إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكن هذه الوعود جرى التخلي عنها تماماً.


ونتساءل في ذكرى وعد بلفور لماذا لا تجرؤ دول العالم عن التخلي عن وعودها لإسرائيل؟ وتتخلى عن وعودها للفلسطينيين...؟

الجواب ببساطة: أن إسرائيل والحركة الصهيونية هي حليف استراتيجي للدول الاستعمارية، هذا أولاً، وثانياً، لأنهما يمتلكان من وسائل الضغط الكثير وفي مختلف المجالات مما يؤثر على هذه الدول، بينما نحن كفلسطينيين وكعرب ورغم امتلاكنا لأوراق قوة ضاغطة كبيرة، إن من حيث السياسة أو في المجال الاقتصادي، لكننا لا نحسن استغلال هذه الأوراق، ونتعامل مع تلك الدول كأقطار متفرقة، وليس كصيغة جمعية مؤثرة، الأمر الذي يعني أننا نستهين بأنفسنا، بالتالي تستهين بنا هذه الدول. تلك هي الحقيقة!


ولابد أن نقر، أن تداعيات وعد بلفور المشؤوم والآثار الناجمة عن التآمر الغربي والعربي على الشعب الفلسطيني، مازالت مستمرة حتى يومنا هذا. فعلى أرض الواقع تواصل سلطات الكيان الاسرائيلي العدوانية ممارسة كل أشكال الإرهاب واغتصاب الأراضي واستيطانها لترسيخ وجودها، وتعمل على قدم وساق من أجل ترسيخ فكرة يهودية هذا الكيان المزعومة، واستكمال مراحل تصفية القضية الفلسطينية وطرح الحلول الاستسلامية التي تنسف حق العودة وتكرس الاحتلال الاسرائيلي.‏


والغريب في أمر وعد بلفور المشؤوم ودولة المنشأ أن ما تصورته تلك الدول الاستعمارية عن حالنا وموقف قادتنا وتفريطهم بحقوقهم وسيادة أوطانهم... ما زال يعمل بكفاءة عالية، فلا الوعد تمت مقاومته ووقفه ولا دولة اليهود توقفت عن التوسع والنمو في ظل حالة تشبه إلى حد بعيد حقبة الحرب الكونية الأولى وما نتج عنها وخصوصاً حال العرب وقادتهم.


فمنذ ولادة الدولة الصهيونية في عام 1948 وحتى الآن 2014 لم يتوقف التآمر الاسرائيلي لا على الشعب الفلسطيني ولا على أمتنا العربية. كل الذي حصل بعد ما يزيد عن الستة عقود: أن إسرائيل أصبحت أكثر عدوانية وصلفا وعنصرية عاماً وراء عام. من جانب ثان: ازداد التآمر الاستعماري على الوطن العربي وهو ما يؤكد حقيقة المؤامرة التي صيغت خيوطها في أوائل القرن الزمني الماضي.


الآن نشهد فصولا جديدة من المؤامرة عنوانها: تفتيت الدول القطرية العربية وتحويلها إلى كيانات هزيلة ومتناحرة ومتحاربة. أفضل مثال على صحة ما نقول هو جنوب السودان الذي تم اقتطاعه من جسد الوطن الأم ليمثل إسرائيل جديدة يتم زرعها في الخاصرة الأخرى للوطن العربي.

أما الحال الفلسطيني ليس بأفضل، فالانقسام بات حقيقة واقعة لأعوام كثيرة على التوالي، والمشروع الوطني الفلسطيني يعاني تراجعاً كبيراً رغم وضوح كافة خيوط المؤامرة.

ختاماً: إن ما تعانيه الشعوب العربية من هجمة استعمارية شرسة تستهدف تفتيت الدول إلى كيانات صغيرة لا حول لها ولا قوة، وكذلك ما يعانيه الشعب الفلسطيني من انتهاكات إسرائيلية يومية ومحاولة إلغاء حقوقه المشروعة يتطلب من المجتمع الدولي وأحرار العالم تحمّل مسؤولياتهم والعمل على الحد من تداعيات وعد بلفور المشؤوم واتفاقيات ''سايكس بيكو'' عبر لجم عدوانية الكيان الصهيوني، والعمل على تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تحرم التدخل في شؤون الدول ذات السيادة، وتعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وفي ذلك رفع للظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني نتيجة وعد بلفور المشؤوم.‏ ودون ذلك، سنكون أمام حلقات تآمرية جديدة هي نسخ كربونية عن وعود بلفور عديدة واتفاقيات ''سايكس بيكو'' كثيرة.
بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger