0
فعلتها ''الدبلوماسي'' الصحيفة الإلكترونية... انتزعت من رزنامة الزمان عاماً، واستعارت من أشعة الشمس الشمعة الأولى، وجدلت من ضفائر البلاغة أكاليل، وشيدت من مبادئ الصحافة الموضوعية صروحاً، وأطلقت من أسراب الفصول عاماً ربيعياً، وقطعت من مسيرة الحياة سنة أولى محطة، وشربت من خوابي المصداقية الإعلامية نخب شمعتها الأولى...
  والجميل في احتفالية صحيفة ''الدبلوماسي'' التي تصدر عن مؤسسة الدبلوماسي للإعلام والنشر والدراسات الإستراتيجية بالجزائر، أنّ توقيت الاحتفاء والاحتفال بعيدها الأول، يتزامن مع الفاتح الأول من شهر نوفمبر المصادف لذكرى الثورة التحريرية المجيدة.


 إذن، ها هي ''الدبلوماسي''، تحفر خطاها في صخور الصحافة الإلكترونية الجادة والملتزمة، وبدأت تأخذ لها مكاناً بارزاً بين الصحف التي سبقتها بالإصدار، بل بدأت تتفوق على البعض منها، وذلك راجع بالأساس إلى المواضيع المميزة التي تقدمها لجميع القراء، بجميع مجالاتها، وهو ما يعطيها شكلا مميزاً ومضموناً رائعاً، إضافة إلى المصداقية بجميع أخبارها ومواضيعها التي تتوسط صفحاتها...


لقد أدهشتنا ''الدبلوماسي'' من حيث لا نحتسب، وحققت آمالنا بأكثر مما تمنينا، ورفعت رؤوسنا بأعلى مما توخينا، وجسّدت قناعاتنا ومواقفنا وتطلعاتنا بأفضل مما توقعنا، ورفعت سلطة الصحافة فوق صحافة السلطة، وأثبتت أنّ أخصب الحوارات ما دار بين القلم والورق، وأنّ أجمل الغراميات ما جمع بين الحرف والسطر، وأنّ أروع الخواطر وأنفع الأفكار والأدبيات ما ربط بين حبر الكاتب وفهم القارئ.

 ولابد من الاعتراف بأنّ السير في الخط الإعلامي الموضوعي والمهني الأخلاقي ليس سهلا هذه الأيام، تحت سماء كل ما دونها يدعو إلى التفرقة والتجزئة بحجة النأي عن النفس، وإسقاط الجمع لحساب الطرح والتفرقة، ما سبب تفسخ الأمة وشرذمتها شذر مذر، ولم يعد الموقف وحده مقياساً في ظل تلون المواقف وتبدلها، وإنما الكلمة الجريئة التي تنبض بالحق، وتؤشر إلى الخلل، وتضع فوقه البلسم، هي التي يجب أن تعلو وتجوب الآفاق ناشرة عبيرها، علها تجد من يتعطر بعطرها، ويسير مغامراً في ركبها، فالحق وإن كان يعلو ولا يعلى عليه، إلا أن النطق به غالباً ما عرّض ناطقه لأشد العقوبات والأخطار.

 لقد استطاعت صحيفة ''الدبلوماسي''، يسندها كتّاب رافقوا مسيرتها الإعلامية، أن تقف في وجه كل من حاول غلق باب الحرية في وجهها، وحاول ليّ أصابعها وأحياناً كسرها، وأن يجعل سقفها ملاصقا للأرض، وأن يطوي رئيس تحريرها خلف قضبان ما كسرته ولا حجبت شمس مبادئه عن أن تبقى متوهجة حتى في عتمة الغياب. لقد فتحت الصحيفة باب حديقتها العروبية، أو بيتها العروبي، لنغرس شتلات انتمائنا عسى أن تورق ومضاً وعزماً وحسماً في نفوس الذين لا يزالون يترددون، فتراهم رِجلا هنا ورِجلا هناك، يتحسسون جيوبهم التي لم تمتلئ بعد.

 وصلت ''الدبلوماسي'' إلى سنتها الثانية... وصلت مبللة بالعرق ومجللة بالتعب، ولكنها مكللة بالصدق والشموخ والشرف، فقد أثبتت هذه الصحيفة الإلكترونية، على الرغم من حداثة عهدها وفتوتها، جدارتها وكفاءتها، بسبب انتهاج معيار المصداقية والاعتدال في الطرح، ولاسيما في اختيار المواضيع والملفات المختلفة... وتتميز الصحيفة بمحوريتها في طرح المواضيع، ومواكبتها لأبرز القضايا العالمية والمحلية والعربية، وقد أثبتت أنها صحيفة رصينة، إذ تتميز بتغطياتها للأخبار المحلية التي من خلالها تلمس هموم المواطنين، كما أنها تشخص المشاكل الموجودة على الساحة وتطرح الحلول المناسبة لها من خلال كتّابها المتميزين، وتفتح أبوابها دائماً للرأي والرأي المعارض بكل حيادية وموضوعية وحرفية.

  ''فالدبلوماسي'' لم تكن يوماً في وارد الكسب والثراء، فضلاً عن أن الثراء لم يكن يوماً من نصيب الصحف والمنابر الملتزمة والمحترمة التي تجوع ولا تأكل بثدييها، وتؤثر الفقر والضنك والإملاق على الانتهاز والابتذال والارتزاق.


مضت سنة أولى على صحيفة ''الدبلوماسي''، لم تكن رغيدة وسعيدة، ودربها لم يكن سهلاً ومفروشاً بالورود، ومشوارها لم يكن هيناً وليناً ومتكئاً على وسائد الراحة... غير أنها صمدت بأكثر من طاقتها، وعاشت من خارج عمرها، واستخلصت فضيلة الصبر من علقم تجربتها، وتعلمت عبر انتسابها لمعسكر الجيل الجديد والفكر المنفتح، كيف تجيد صناعة التحدي والتحمل والاستمرارية.

 مؤكد أنّ صحيفة ''الدبلوماسي'' الإلكترونية، ذات الإمكانات المحدودة والطاقم الصحفي الشاب، ما كانت تستطيع الصمود لعام، والعناد في مواجهة المنافسة الشرسة بين المواقع، والعطاء على هذا النحو المتميز، لولا دعم ومؤازرة كتيبة محترمة من الكتاب والزوار الأوفياء الذين وقفوا إلى جانب هذا المنبر الجزائري العربي متبرعين ومتطوعين ومناصرين ومساندين في غير مجال وميدان، ودون قيد أو شرط أو أجر... واستحقوا، بمناسبة العيد الأول، أجمل معاني التنويه بجهودهم المباركة، وأكرم آيات الشكر والتقدير والتوقير لهم، و...

غير أنّ سؤال صحيفة ''الدبلوماسي'' الصعب والعويص لا يتصل بعمرها الفتي، أو يتعلق بما حققت في هذا العام، وما تحملت، بل يتطرق إلى معطيات الحاضر ومآلات واحتمالات الغد القريب...


فهل ظل لها ولسائر الصحف الإلكترونية الرصينة والرزينة دور وجمهور في زمن الأنترنت وأخواته ومشتقاته وعوالمه الوهمية والافتراضية؟ وهل يصلح العطار العربي ما أفسده المتأمركون والمتصهينون والمتعثمنون والضالعون في تدبيج الفتاوي التكفيرية، والبلاوي القرضاوية، والمناكحات الفكرية والمطارحات الظلامية والتضليلة التي أطفأت مشاعل الثقافة، وشوهت الوعي العربي العام، وقلبت الأمور رأساً على عقب حتى أنّ المبادئ فقدت مبدئيتها، والثوابت أضاعت ثباتها، والعقائد نسيت عقائديتها، والأخلاق افترست أخلاقيتها، والشوامخ تقزمت وتصاغرت وخانت شموخها؟

 أزمة صحيفة ''الدبلوماسي'' لا تنحصر في فقرها المادي وضعف مواردها المالية فقط، بل تمتد هذه الأزمة وتتسع لتشمل ذائقة القراء ومزاج الرأي العام أيضاً، حيث الإقبال الشديد ـ بكل أسف ـ على الخفائف والسفاسف والطرائف والكلمات المتقاطعة والتغريدات المبتسرة والتعابير السطحية والغوغائية والعشوائية، مقابل الإعراض عن الكلمة العذبة والجملة المفيدة والفكرة الدسمة والمقالة الجادة المستوفية لشروط ودواعي كتابتها.


خلال السنوات القليلة الماضية تغيرت كثيراً دنيا العرب، أو بالأصح تأخرت وتقهقرت واستمرأت السير في الاتجاه المعاكس... اضطربت المعايير واختلت الموازين والمعادلات والأولويات، حتى تقدم الخبر على المبتدأ، والنعت على المنعوت، والرزيل على الأصيل، والمقاول على المناضل، والمكفر على المفكر، والفاسد على الزاهد... فيما باتت المعارضة سلعة رخيصة خاضعة للبيع والشراء، والوطنية بدعة قديمة غاب زمانها وأوانها، والقومية جيفة منتنة تستحق الإبادة في عرف المتأسلمين، والفوضى ربيعاً عربياً ديموقراطياً حتى لو ارتوى بالدم، والخيانة حرفة أو وظيفة تمارس ذاتها علناً وبلا خجل أو وجل...


فأين محل صحيفة ''الدبلوماسي'' من الإعراب وسط هذا التيه البغيض والضلال المبين الذي تنميه وتغذيه، على مدار الساعة، وسائل إعلامية عاهرة ومقتدرة وممولة خليجياً وأجنبياً؟

 لكن هذا كله لا يعني أبداً أنّ صحيفة ''الدبلوماسي'' قيد الاعتراف بالانكسار، والتسليم بدكتاتورية الأمر الواقع، فلا مكان لليأس والإحباط والقنوط في قاموس طاقم صحيفة ''الديبلوماسي'''، ولا نية لديها للانسحاب الطوعي من ميدان المواجهة، ولا بديل لها عن التحدي والصمود والاستبشار والنضال على جبهتين: جبهة البقاء والاستمرارية، وجبهة المصداقية والاعتدال.


وأقولُ في صحيفة ''الدبلوماسي'' خِتاماً كَقولِ نِزار في المناضلة الشريفة والوطنية ''جميلة بُوحيرِدْ'':


وفتاةٍ من قُسطنطينـة       لَم تَعْرِف شفتاها الزينةَ

العُمرُ اثنانِ و عِشرونا    أضحى بالثورةِ مَسكونـا

في القَلبِ اليافِعِ قُنبُلـة      والإظفَرُ أصبَحَ سِكينــا


فالتحية والتهنِئة لصحيفة ''الدبلوماسي'' في عيدِها الأول، والتحية للصامِد الصابِر قائد سفينة التحرير ''بلال حداد'' ولأسرَةِ التحرير فرداً فرداً.

 وكل عام وانتم بخير.
بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger