0
تشكل بداية العام الدراسي الجديد بالجزائر، منطلقاً مهماً نحو تعزيز صور الاهتمام التي يبديها أمهات وأولياء الأمور تجاه أبنائهم الدارسين، سواء الذين للتو يبدؤون مشوارهم التعليمي كالتلاميذ الجدد، أو أولئك الذين يكملون هذا المشوار من التلاميذ القدامى في الصفوف المختلفة، وعندما يسعفك التأمل في قراءة هذا المشهد الجميل، وهو بمثابة احتفالية يشترك في إحيائها الجميع من أمهات وأولياء الأمور وأبنائهم، تقر يقيناً أهمية الحدث، وتستشعر الفخر بمدى المكانة التي تحتلها قيمة العلم في نفوس الناس...

فالمسألة تتجاوز ـ يقيناً ـ صورة نمطية تتكرر كل عام في هذا الوقت، بل تذهب بعيداً نحو تأسيس منطلقات مهمة في اتجاه تعميق أهمية صورة العلم من ناحية، وفي استحضار صورة الوطن الزاهية لمستقبل أجمل، وأفضل.

صحيح أن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببناء مستقبل هذا الشاب، وهذه الفتاة، فبغير العلم لم يعد من اليسير أن يتم هذا البناء بصورته الصحيحة، ولكن محصلة ذلك كله بناء جزائر بكل معززات نجاحاتها، والاطمئنان إلى مستقبلها، ومستقبل الأجيال فيها، سواء اليوم أو غداً، وكما يقال: ''انّ غداً لناظره قريب''.

 لقد كان مشهد 8.618.155 من تلاميذ وتلميذات الجزائر، وهم يعبرون إلى فصولهم في أول يوم دراسي يثير شغف الأسئلة ويغري على التفكير في مراجعات مرحلية... أعداد كبيرة من التلاميذ والتلميذات، يمكن أن يغيروا شكل الجزائر متى ما كانت هناك استراتيجية تعليمية واضحة... ذلك لأنّ السياسة التعليمية لأي دولة هي مرآة لكامل مشروعها السياسي، ذلك للارتباط الوثيق بين بناء الدولة وبناء الأمة، باعتبار أن المشروع السياسي له علاقة وثيقة ببناء الدولة فيما السياسات التعليمة مرتبطة بشكل خاص في بناء الأمة.

فالأوطان لن تراهن على أية نجاحات إلا بوجود كوكبة من المتعلمين في مختلف مجالات الحياة، وهؤلاء المتعلمين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا من خلال مرورهم على هذه المؤسسات التي هذبتهم بالقيم المعرفية، والقيم السلوكية، كأهم عنصرين في العملية التعليمية...


فبداية ألف شكر وتقدير لكل هذه الجهود التي تبذل لإنجاح هذه الكوكبة من المتعلمين، سلوكاً ومعرفة، والتي وراءها طاقات فاعلة، وآمنة مطمئنة يمثلها هذه الكوكبة الرائعة من أبناء الجزائر من رجال ونساء التربية والتعليم الأجلاء الأوفياء، الذين عاهدوا الله، واصدقوا الوطن، فلهم من كل القلوب ألف شكر وتقدير، ولهم من كل النفوس الرضا بما يقدمون، ولهم من المشاعر الحب، والإخاء، ولهم الدعاء دائماً بأن يكلل الله مسعاهم، ويعينهم على أداء هذه المهمة ''الأمانة''، فهم ورثة الأنبياء، وهم حاملو شعلة البناء.

ندرك جميعنا أنّ العملية التعليمية قائمة على أطراف ثلاثة: الأسرة، والمدرسة، ووزارة التربية الوطنية، وبالتالي فأي نجاح، أو إخفاق في العملية مسؤولة عنها هذه الأطراف الثلاثة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحمل طرف واحد كامل المسؤولية، ومعنى ذلك فمع ظهور أية بذرة إخفاق في خضم هذه العملية على الأطراف الثلاثة أن تقترب من بعضها البعض لمعرفة مكمن الخطأ والبحث له عن حلول.


والذي يجب أن لا يغيب عن البال أنّ هذه المؤسسات ـ المدارس ـ  التي تضم بين جدرانها الأربعة الآلاف من تلاميذ وهيئات تدريسية، يصبح يقيناً، أنها مبعث إخفاقات كثيرة، إدارية وتربوية، انعكاساً لأسباب كثيرة، فهؤلاء بشر يكثر عندهم الخطأ كما يتوالد عندهم الصح، وبالتالي فالمسافة بين الخطأ والصواب إن لم تجد من يحكمها ويقننها، ويصوب اتجاهاتها نحو الرؤى الصائبة من خلال التخطيط السليم، ومعالجة الإخفاقات في حينها، والوقوف على أي إخفاق دون إهماله حتى لا يستشري في أوصال الجسد...


عوامل مهمة لإنجاح هذه العملية، أما أن يحدث شبه قطيعة في الاهتمام بمختلف القضايا التي تحدث في أوصال هذه المؤسسات على الرغم من هذا الكم الهائل من البشر الذي تضمه جدرانها الأربعة فهذا ليس من الحكمة أبداً، بخاصة أن هؤلاء جميعهم في الأطراف الثلاثة يكونون على مستوى متقدم من الوعي بمختلف قضايا العملية التعليمية، لأنهم يعيشونها بكل تفاصيلها، ويدركون في الوقت نفسه مكامن الخطأ والصواب، ويدركون أيضاً الحلول التي من شأنها أن تقضي على كل بذرة خلاف قد تحدث، وقد تعكر الصفو العام بين هذه الأطراف.

صحيح أنّ البيئة المجتمعية تفرز إشكاليات كثيرة، والمجتمع المدرسي واحد من المجتمعات التي سوف تصطدم مع هذه الإشكاليات لكثرة العدد من البشر في المجتمع المدرسي، ومن هنا تأتي أهمية أن تكون الأطراف الثلاثة قريبة من بعضها البعض طوال العام الدراسي لتلاشي مختلف الإشكاليات التي تفرزها البيئة المجتمعية وتصدرها إلى البيئة المدرسية، ولذلك نسمع دائماً عن كثير من المشاكل التي تحدث بين جدران المدرسة الأربعة...

 وفي المقابل تعاني هيئات التدريس من تصدير المجتمع لمشاكله إلى البيئة المدرسية، وليس الخوف فقط في هذا التصدير، بل الخوف أن تبقى المدرسة هي التي تتلقى المأزق الناشئ ما بين المجتمع وقضاياه التي لا تنتهي، وإشكالية المدرسة أنها مؤسسة تربوية، وهذا يحملها الكثير من العناء، والكثير من المسؤوليات، والكثير من الاتهامات أيضاً من قبل أبناء المجتمع الجزائري، وكأن هذا المجتمع وأبناءه يعيشون في جزيرة معزولة، وليس هو من يصدر قضاياه إلى المدرسة من خلال من يمثلونه من تلاميذ وهيئات تدريسية.

فاليوم نسمع وبملء الأفواه من تسرب آفة المخدرات بين التلاميذ في المراحل المختلفة، وكم تقشعر الأبدان من سماع ذلك، فهذه الفئة هي الموكول إليها بناء الوطن في مراحله القادمة، وكذلك نسمع عن تسرب التلاميذ من العملية التعليمية، حيث يتركون الدراسة في سن مبكرة، ويجدون أعمالا بسيطة تشبع غرورهم المادي لفترة زمنية قصيرة، وهناك مؤسسات تستقبلهم لمثل هذه الوظائف العمالية البسيطة، لأنه لا يوجد حتى الآن قانون ملزم لتكملة التعليم...


يجب أن تكون عندنا الجرأة ونعترف أنّ فكرة التعليم في الجزائر قد تاهت ودخلت مراحل طويلة من التجريب الذي لم ينشأ أو يشتق من استراتيجيات محلية واضحة، وإنما ظل رهين تجارب قادمة من أماكن بعيدة من بقاع الله، تجارب نجحت في مواطنها لأنها مشتقة من أهدافه ومعطياته وخططه نحو المستقبل لكنها لم تلق النجاح المنتظر في الجزائر، لأنها غريبة عنها ولا تكاد تنتمي لها.

واليوم ونحن نخطو إلى عهد جديد نحتاج إلى أن نراجع استراتيجية التعليم في الجزائر، وبشكل يتناسب مع المتغيرات التي يشهدها العالم... المتغيرات التي يشهدها العالم بكل تفاصيله.

أعرف أن هناك جهوداً كبيرةً تبذلها وزارة التربية الوطنية في بناء استراتيجية تعليمية من شأنها، كما أسمع كثيراً، أن تضع التعليم في الجزائر في مكانه اللائق، لكن الاستراتيجيات التعليمية لا تصنع في الخفاء أو تنزل هبة من السماء بل تحتاج إلى صناعة تشاركية يساهم فيها الاستراتيجيون ''بناء على مقولة إن السياسة التعليمية لأي دولة هي مرآة لكامل مشروعها السياسي''.


ويشارك فيها الميدان التربوي باعتباره ركنا أساسياً من أركان العملية التعليمية، وولاة الأمور باعتبارهم أحد المعنيين أيضاً بالمشهد التعليمي، ولا بأس من الجلوس مع نماذج تلاميذية مستنيرة، لدي إيمان بفكرة أن النخب هي المسيرة دائما لبناء الأمم، ولذلك فإن النخب موجودة في المجتمع الجزائري وإن بصورة متداخلة.

 فالنخب موجودة في الميدان التعليمي وموجودة في قطاع أمهات وأولياء الأمور وكذلك التلاميذ، وهؤلاء لديهم المقدرة على تقديم تصورات من شأنها أن تعين صناع الاستراتيجيات التي تكون صالحة لمجابهة التحديات والتغيرات التي يشهدها العالم... لأن الاستراتيجيات لا تُبنى وفق أمزجة شخصية ولا حتى أمزجة فئوية.

الجزائر، وفي الحقيقة العالم العربي أجمع، ينقصها نظام تعليمي متين، وصناع قرار يؤمنون بفكرة الاستثمار في البشر دون استكثار للأموال التي تنفق على التعليم، لأنها في الحقيقة تبقى أرقاماً بسيطة مهما ارتفعت لأن التعليم هو المدخل الأول لأي تقدم ولأي نهضة ولأي استثمار مستقبلي.


ولا أعني بالتعليم هنا المناهج الدراسية فقط، ولا حتى المباني، بل أتحدث عن منظومة متكاملة يتشارك فيها رجال التربية والتعليم والمنهج والمباني والمرافق، وقبل كل ذلك استراتيجية عليا ينطلق منها وإليها الجميع.


التحدي الكبير إذن الذي على الجزائر أن تواجهه خلال السنوات القليلة القادمة هو تحدي التعليم... والتعليم وحده هو الذي سيقرر أن يضع الجزائر في المساحة الزمنية القادمة، فالأجيال القادمة أجيال ثائرة (لا أعني بالثورة هنا الثورة بمعناها الايجابي... الثورة الخلاقة بالضرورة)، وإذا لم يهذبها ويضعها تعليم حقيقي على الطريق الصحيح فإن العالم من حولنا يضج بطرق بديلة ويمكن بسهولة أن نجدها تتغلغل عن يميننا وعن شمالنا.

ما زلت أتأمل الأفواج الغفيرة من التلاميذ والتلميذات بالجزائر، وهم يخرجون من أسوار هذه المدارس المنتشرة في ربوع الجزائر، وهم يحملون خرائط مواصلة البناء... البناء المبني على معرفة وليس على تخبط، لا أن يخرجون وهم عالة على مجتمعهم بسبب تعليم لم يستطع أن يضعهم على الطريق الصحيح الذي تريده المرحلة وتريده استراتيجية بناء الدولة...


أي مجد يمكن أن يصنعوا، أي طرق نحو المستقبل يمكن أن يمهدوا... فقط وفروا لهم تعليماً جيداً... تعليماً حقيقياً لا مجرد عملية حشو للمعلومات تتبخر في رحلة العودة إلى البيت...


ختاما: هنيئاً نقولها بصدق المعرفة لهؤلاء الأجلاء من كوكبة رجال التربية والتعليم، وهم يتطهرون كل يوم بمرابض ساحاتهم المعرفية على عدد مدارس الجزائر، وعلى امتداد جغرافية الوطن من أقصاه إلى أقصاه، هنيئاً لهم بوجودهم في ساحة مقارعة الجهل، وهنيئاً لهم بأنهم الصفوف الأمامية لحماية الوطن، فلهم الإكبار والإجلال، ولهم الدعاء والأمنيات، ولهم الوفاء والتقدير.
بقلم: مصطفى قطبي
 

إرسال تعليق Blogger