0
الإرهاب الذي يضرب نسيج المجتمع السوري ومكوّنات الدولة السورية وفي مقدمة ذلك (حماة الديار) وضع في قائمة أولوياته وفي مقدمة استهدافاته أصحاب العقول المبدعة وذوي الكفاءات النادرة من علماء ورواد فكر التزموا الحالة الوطنية وسكبوا إنتاج فكرهم وعلمهم في ميادين أوصلت الشام إلى حالة ترهب الأعداء وتقدّم البراهين على أنّ الشعب السوري لا يحسن فقط الإنشاء وإنما يبدع الأشياء.‏

استهداف تنظيم جبهة النصرة واغتيال أربع مهندسين يعملون في مجال الطاقة الذرية والكهربائية، مؤخراً على طريق التل برزة وذلك بإطلاق النار على الباص الذي كان يقلهم أثناء توجههم إلى مقر عملهم في مركز البحوث العلمية في حي برزة، هو ليس استهداف لأشخاص بعينهم، وإنّما هو استهداف لسوريا... هو استهداف للعلم هو استهداف للمعرفة لأن من نفذ عملية الاغتيال وضع في برنامجه إعادة إلى سوريا الإمارة وإلى زمن ركوب الإبل وسباقات الهجن.‏

ويبدو أن المخطط الشيطاني الذي تنفذه المجموعات الإرهابية المسلحة في سورية قد دخل مرحلة خطيرة من خلال استهدافه للكوادر العلمية المدنية المنتجة في البلاد، حيث شهدت الأيام الماضية اغتيالاً ومحاولات لاغتيال عدد من الأكاديميين والأطباء ورجال الفكر ممن أسهموا بتقديم رؤى إصلاحية لمستقبل سورية، في مؤشر واضح لا يقبل التشكيك بطبيعة المشروع العدواني التخريبي الذي يتبناه هؤلاء المخربون الظلاميون ومن يقف خلفهم ويمولهم في دول الغرب الاستعماري، وحراس مشيخات نفط الخليج، ممن لا يروق لها أن ترى الأزمة في سورية تحل بأيدي أبنائها، بعيداً عن أحلامهم المريضة التي تتربص شراً بسورية المدافع الأول والوحيد عن حقوق الأمة، في الوقت الذي باع أمثال هؤلاء كل عناصر قوة ووحدة الأمة مع براميل النفط التي ينتجونها.

 الاستهداف الذي يجري اليوم لنخبة المجتمع السوري من أكاديميين وأصحاب أدمغة علمية متطورة، يعيدنا بالزمن إلى حقبة الثمانينات السوداء التي عاثت فيها عصابات مماثلة فساداً وتقتيلا ضد خيرة أبناء سوريا في تلك المرحلة، لمصلحة قوى غربية تحتكر العلم والتكنولوجيا وتعتمد في جامعاتها ومراكز أبحاثها على الطاقات الخلاقة والمبدعة التي يقدمها بعض أبناء وطننا العربي وبخاصة السوريين منهم في دول الاغتراب.‏

 وما يثبت أن هذا المخطط الإجرامي ليس وليد لحظته، أو معزولاً عما يخطط له الغرب، هو أننا شهدنا له مثالين قريبين في العراق وإيران، ففي العراق الذي تجرع مرارة الاحتلال منذ عام 2003 حتى اليوم قتل المئات ـ وقيل الآلاف ـ من مفكريه ومبدعيه وأساتذة جامعاته وعلمائه وبخاصة أولئك الذين رفضوا عروضاً للعمل في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وقد تقاطعت معلومات كثيرة حول ضلوع بعض الاستخبارات الأجنبية في مخطط قتل العلماء العراقيين، من بينها الموساد الإسرائيلي، الذي يعتبر الجهة الوحيدة التي تمارس مثل هذه الجرائم لأنه سبق أن اغتال عدداً من علماء الجامعات العراقية وأساتذتها لاسيما في بغداد والمنطقة الشمالية.

ومما يؤكد ما نقوله، هي تصريحات سابقة أدلى بها الدكتور زياد عبد الرزاق وزير التعليم العراقي السابق في زمن صدام يقول فيها: إن 15500 عالم وباحث وأستاذ جامعي عراقي فصلوا من أعمالهم في سياق الحملة الأمريكية الإسرائيلية التي استهدفتهم، وقد تكتمت وزارة الداخلية العراقية على نتائج التحقيقات التي طاولت المتهمين في عمليات الاغتيال ضد أصحاب الكفاءات العلمية العراقية في حين أطلقت السلطات الأمريكية عدداً منهم ورفضت الكشف عن نتائج التحقيقات التي أجريت معهم.‏


وقد تكشفت التهديدات إلى حد أن مجموعة كبيرة من الباحثين العراقيين وجهت إليهم رسائل عبر الانترنت بعنوان: ''علماء الأمة مهددون'' طلب موقعوها من الجهات العربية المعنية العمل على إنقاذهم من عمليات الدهم والاغتيال والتصفية التي يتعرضون لها، خصوصاً الخبراء منهم في مجال التسلح.


وما يؤكد الدور الإسرائيلي في خطف وقتل أو استقطاب العلماء العراقيين، التصريحات التي أدلى بها في 8 نيسان (أبريل) 2004 جنرال فرنسي متقاعد إلى القناة الخامسة في التلفزيون الفرنسي، أكد فيها أن أكثر من 150 جندياً من وحدات ''الكوماندوس'' الإسرائيلية دخلوا الأراضي العراقية في مهمة تستهدف اغتيال العلماء العراقيين الذين كانوا وراء برامج التسلح العراقية الطموحة في أيام النظام السابق، وقد قدمت أسماء الإسرائيليين إلى لجنة مفتشي الأسلحة الدولية التي ترأسها هانز بليكس في حينه.


ومما قاله الجنرال الفرنسي: إن مخطط الاغتيال هذا تم وضعه من قبل مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، وأن لديه معلومات دقيقة عن الغرض المقصود منه، وهو تصفية العلماء الذين خططوا للقوة الصاروخية العراقية ووضعوا أسس البرنامج النووي، كما ساهموا في برنامج الأسلحة الكيميائية الذي أرعب إسرائيل وعددهم 3500 عالم من ذوي الخبرات العالية، بينهم نخبة تتكون من 500 عالم اشتغلوا في تطوير مختلف الأسلحة.‏


وقد سبق لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، أن صرحت: ماذا نستطيع أن نفعل مع العراق غير تدمير عقوله التي لا تستطيع القنابل الذرية أن تدمرها، فتدمير العقول العراقية أهم من ضرب القنابل.‏

 وأما في إيران فقد كان لافتاً استهداف واغتيال عدد من العلماء النوويين البارزين، في الوقت الذي يقود فيها الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل حرباً لا هوادة فيها ضد المشروع النووي الإيراني السلمي، وقد أثبتت التحقيقات الإيرانية ضلوع عملاء للموساد وال سي آي إيه والمخابرات البريطانية في بعض عمليات الاغتيال،

إن تصاعد عملية الاغتيال في سورية من قبل الجماعات والعصابات التكفيرية، تعيد إلى الأذهان تكتيك اغتيالات جماعة ''الإخوان المسلمين'' في الثمانينيات من القرن المنصرم، والتي ركزت أهدافها على الأطباء والعلماء وضباط الجيش، وكاد هذا المخطط أن يصل إلى الفتنة لولا أن تصدت السلطة الوطنية لتصفية المتآمرين وصادرت جميع الأسلحة التي كانت بحوزتهم، فأخفقت هذه الفتنة في تحقيق أهدافها، وسقطت معها جميع الأهداف التي استهدف المتآمرون التوصل إليها، وهي بلا شك جزء من الإستراتيجية الخارجية الهادفة إلى تقويض النظام الوطني في سورية بواسطة السلاح، إذ أن هذا النظام برأيهم ''لن يسقط من دون حرب''.

لقد أراد هؤلاء أن يزعزعوا مسيرة الاستقرار والتقدم والازدهار التي بدأت بشائرها في بدايات السبعينيات من القرن الماضي وبخاصة بعد حرب تشرين التحريرية، ولهذا فقد أرادت قوى استعمارية أن تضع لها أصابع في سورية لتكبح التقدم والازدهار، لأن سورية التي اتخذت الآن مساراً صحيحاً ومتقدماً ومتسارعاً سيقضي على الكثير من الأحلام والآمال التي تعقدها ''إسرائيل'' ودول كبرى من ورائها على إنجاح خططها في ضعف الأمة العربية، وضعف دول المواجهة وعلى رأسها سورية هو الذي يساعد على تنفيذ المخططات الإسرائيلية، فإذا ما ظهرت بوادر التقدم والقوة في سورية فإن ذلك يعني إضعاف طرق تنفيذ تلك المخططات والتآمر الاستعماري لإجهاض مشروع الوحدة العربية، وتفكيك كل رابطة من روابطها، وسورية ما تزال تعبأ بحمل قضايا الأمة ويتحملها كل أبنائها عن اقتناع.

لقد دفع حجم الإفلاس الذي وصلت إليه المؤامرة في سورية للجوء إلى الاغتيال الذي يُعرف أنه سلاح الضعفاء والمفلسين، وذلك بعد الإخفاق الذريع في تحقيق أهدافهم وغاياتهم، وقد بات من الواضح أن قائمة اغتيالات قد وضعت، ليس بهدف الترهيب فقط، بل لتوجيه ضربات محددة ومركزة، علها تضعف عناصر القوة والتماسك في الموقف السوري، عبر استهداف الشخصيات السياسية والعسكرية والعلمية والدينية التي هي على احتكاك مباشر مع أفراد المجتمع وتساهم في تحديد موقفهم العام الصحيح من قضايا الأمة.

وأياً كان نوع الاغتيالات وأهدافها، فإنه يتعين على المجتمع الدولي التصدي لها، وتقديم من يثبت تورطهم في ارتكابها إلى العدالة، هذا إن كان هناك سعي حقيقي للوصول إلى عالم آمن ومستقر، وعلى القوى الإقليمية والدولية ألا تعتقد أنها بمنأى عن الاغتيالات، فالإرهاب لا دين له ولا وطن، وإن لم يستمع العالم إلى صوت العقل والحكمة فسوف تسود الفضوى في كل مكان، ولن يعرف العالم طعم الاستقرار، وعلى قادة العالم الاتفاق على كلمة واحدة لمواجهة الإرهاب، إن كانوا جادين في السعي نحو عالم جديد خال من العنف.

وأخيراً وليس آخر، فإن من صغير الحجة وضعف الدليل وفساد الرأي أن يلجأ الإنسان إلى العنف والاغتيال لأن ذلك ببساطة سلاح الضعفاء والمفلسين، الذي ترفضه كل الشرائع، فالإسلام يحرّم القتل غيلة لأنه لا يعرف إلا المواجهة الشريفة، وهو يوجب أن يتعامل المختلفون بالحوار المقنع والبناء.
بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger