0
نشر موقع "الديبلوماسي" مقالا بعنوان أزمة التحوّل الديمقراطي في الجزائر للصحفي الجزائري بشير عمري، حلّل فيه مسارات الوعي السياسي الوطني ونضاليته داخل الأطر التقليدية التي شكلت المنظومة السياسية التي اتكأت عليها السلطة،وفكك الرّؤية للذات الوطنية في حركتها داخل ما أسماه "الوصاية على 
  الوعي"،وعرّج على ميكانيزمات ولادة التعدّد والواحدية، وانطلاقا من رؤيته هذه وقفت عند بعض المفاصل الحساسة التي أحسبها تدخل ضمن النسيج البنيوي للتفكير في الثورة والوطنية والحزب، ومنظومة الحكم التي تداولت على منصة تسيير شؤون الدّولة ودواليب السلطة.
الكولونيالية وزمام المبادرة:
تكرّست الذات الوطنية خلال التاريخية المنطقية لوجوديتها ضمن هوية ثابتة تنتمي إلى الفضاء الجغرافي والتاريخي الذي يشكل إطارا مرجعيا للهوية  المختلفة، وبالتالي تصبح العلاقات النّاظمة لسيرورة ومسار الكتلة الوطنية هي تلك النابعة مما وصل إليه الوعي الوطني من عناصر قابلة لأن تدير شأنه العام والسياسي في علاقات الكيانات الاجتماعية ببعضها، ومع ما يجاورها في الفضاء العام الذي لم تؤطره الحدود في أغلبيته، فما يسمّيه بشير عمري "بالشعور الفطري بالوجود الذاتي الجمعي للجزائريين"، كان يدخل ضمن الذات الواعية بما توفر لديها من أدوات لتسيير واقعها، وبالتالي تكون المحمولات الفكرية والإجرائية التي يمكن أن نفهمها من ترسيمه للمآل الفكري والوعي اليومي للذات الوطنية من خلال ما يضيفه في هذا السياق من حضور هذا "الشعور الفطري"  "وفق مرجعيات قديمة وخالية من كل الرّوابط والارتباطات ذات المعنى السياسي بشكل حديث"، يمكن أن يفتح القوس لتحليل الظاهرة السياسية والوجودية الوطنية من خلال الرّؤية لهذه الذات خارج الأطر المرجعية الثابتة، وهو ما يناقض الحضور الوطني داخل الذات، لأنّ صدمة الإستعمار كانت الفتيل الذي نبّه الذات الوطنية إلى ضرورة تطوير ميكانيزماتها المعاشية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، بما يجعل الوجود السّابق للكلونيالية كان فعالا بما توحي به ضرورات الرّخاء والأمن وعناصر القوة التي كانت متوفرة وفق المجال الوجودي الثابت والذاتي.
وهنا تبدأ الأسئلة المحرجة للوعي والعقل الوطنيين، حيث إلى أي مدى يمكن تثبيت الكولونيالية كعنصر داخل اللحمة السياسية والثقافية الوطنية، ولعله يتوجّب الإشارة إلى الإشكال اللغوي ومشكل الهوية ومعايير التعامل الحداثية مع شؤون الحكم والدولة الحديثة.
فلسفة الثورة ورشدانية الإنطلاق:
تمثل أي الثورة مهما كانت بسيطة أو كبيرة حدثا يمس الذات في سكونيتها المستسلمة للواقع، وبالتالي ما يحركها أو يجعلها تعي ذاتها يمكن تسميته بالفلسفة المحرّكة للنهوض والثورة ضد واقع قائم، والوعي الذي حرّك الذات الوطنية سواء في فرديتها أو جماعيتها، إنّما يمثل تلك الحركة التي انتفضت ضد وجودها الخامد والذي استولى عليه كلية الحضور الاستعماري المهيمن والغاصب، فحركة الذات لم تكن في قبليتها فارغة من الشعور بالمأساة الوطنية التي صادر الاستعمار تاريخها وجغرافيتها، أي صادر الهوية الوجودية للذات الوطنية، فتحرّكت هذه الأخيرة لا لكي توفر الخبز للعائلة معدومة الدخل، ولكن، لكي تحرّر مبادرة هذه العائلة لتصنع مصيرها ضمن ما توفر، و ضمن ما استلهم من وجوب ترسيم حدود الجبل كرمز للجغرافيا المحرّرة، وتثبيت عناصر الذات كما كانت قبليتها محرّرة تعيش وجوديتها وفق عناصر المكان والزّمن الوطنيين، ففلسفة الثورة لا يمكن أن نربطها بالفعل الثقافي ذو البنية المتعالية التي سواء تنظر للثورة قبليا أو تحلل وتكرّس هويتها بعديا، فما يذهب إليه بشير عمري من خلو الثورة من مرتكز فلسفي في قوله : "وعليه يظل من الأهمية بموضع التأكيد على أن منشأ السياسة في الجزائر كان نضاليا ضد عدو خارجي وعليه انبنت ثورة التحرير وهو ما يبرر خلو هذه الثورة من الفكرة الفلسفية.."، إنما يوحي بأن الثورة قامت في الفراغ وآلت إليه، لأنّ الدولة الوطنية بعيدا عن مرتكزات الحكم وتقلبات السلط، تعتبر فكرة جوهرية في مآلات الترشيد الوطني ما بعد الكولونيالي، أي أن ما يميز الفترة ما بعد التحررية هو علو شأن الصفة الوطنية بل تغطيتها على كل الأطر الواصفة للحالة الوجودية اليومية والمعاشية، فالتأكيد على مفهوم السياسة المنبثق من النضالية ضد المستعمر، يكون وصفا حقيقيا لكنه يبدو لي أنّه يجانب الصواب حين نعزو إلى هذه الصفة سبب إخفاق الفعل السياسي بدعوى خلوه من الفكرة الفلسفية، لأن النضال ضد المستعمر يمثل في حد ذاته فلسفة، فنضال غاندي بهذا المفهوم يظل لا فلسفيا حيث لم يتخذ شكل العنف الثوري، فأن تتأسس الثورة ضد المستعمر على العنفية العسكرية او على اللاعنف يحدّد شكل الوعي الفلسفي "تنظيريا" في تمرّد الذات واستعصائها على الهيمنة، أي توحدها الكامل مع فكرة الحرية، وليس هناك ما هو فلسفي أكثر من المضمون الوجودي للحرية، وعادة، الثورات التي تحدث نتيجة الضغط المهيمن للمستعمر، تحمل بذور فلسفيتها ولو البسيطة في عمقها، وهنا قد يبدو وكأنّني أتكلم عن الدافع، لكن الدافع في حد ذاته بالنسبة لي هو المحرّك الأساس لترتيب رؤية حول الثورة من قبل الراصد لها، فحتى الثائر حينما يتكلم ببساطة الحامل للبندقية والغضب الثوري، يتكلم من موقع الحلم القادم في جوهر حركته وفعله المناهض للهيمنة والإستعباد.
الوعي بالذات ونضوب المجال الحيوي للسياسة:
حقيقة إن الفعل السياسي الوطني تداولته منذ اللحظة الإنخلاقية الأولى تجاذبات الحراك والحراك المضاد، فالنوفمبرية أسّست لما يمكن تسميته بالسلوك الواعي للتحوّل، حيث أزمة مصادرة الهوية من قبل الاستعمار، كانت كفيلة بأن تستدعي الذات الوطنية في جماعيتها لمواجهة خطر تدمير بنية الحضور على مسرح الوجود، فالإصطفاف داخل الكيان الواحدي كان معبّرا عن دلالة التنوّع والتعدد داخل الواحدية، الذي يجابه بنبض مختلف واحدية الهيمنة الإستعمارية، فمنطلق الحزبية الواحدية لم يكن منبنيا على مصادرة الوعي والرّغبة التعددية التي كانت موجودة مسبقا على مسرح الحركة الوطنية، متمثلة في الأحزاب الوطنية الثورية،
إلا أنّ استمرار الواحدية بعد الإستقلال هو ما فجّر الأزمات السياسية المتعلقة بعناصر الدّيمقراطية، كحرية التعبير والتعددية وحرية الانتخاب..، وهو أيضا ما حمل الذات الوطنية المجرّدة، أو المعارضة على التأكيد على التغيير على طول فترة ميلاد وكينونة الدولة الوطنية، فكان انغلاق المشهد السياسي الوطني على واحدية الرّؤية هو الباعث لردّات الفعل المناهضة للسلطة، وكانت أقواها انتفاضة أكتوبر 1988.
إنّ استمرار الواحدية كبرنامج لهوية الدّولة الوطنية والقومية، التي جثمت (الواحدية) على ربوع الجغرافيا السياسية العربية، مبرِّرة وجودها بالخطر الخارجي وتهديد الوحدة الوطنية، هو ما أحدث شرخا وجرحا عميقا في الذات الوطنية التي نشأت تاريخيا على التعدّد، حتى القبيلة ككيان سياسي في فكرويتها التاريخية كانت منبنية على تعدّد الرأي واختلاف الطروحات، لهذا نجد المشاريع المنضوية تحت لواء الثورة أو الانتفاضة، ولعلني أذكر "النوفمبرية والاكتوبرية" كما وسمهما بشير عمري، تستند في خلفياتهما الانبثاقية على ركائز التغيير الجذري، وهو ما يتعرّض عادة للمصادرة،  ففلسفة الثورة أو الإنتفاضة، تنطلق من حلم المشاركة، مشاركة الفرد والجماعة في بناء حلم الواقع المرجو، مهما كانت صورة المشاركة بسيطة أو واسعة، وهو ما يعسّر عملية الولادة الديمقراطية، ويشكل أزمة بنيوية على مستوى الممارسة السياسية، لأن السلط القائمة ترفض التعدد الرؤيوي حول تسيير الشأن العام،  وتشكل تحديا بالغ الحدة بالنسبة للعقل السياسي الوطني، لفشله أمام تحويل المشروع النظري غلى إجراءات عملية، فالشرارة المفجرة لفعل الثورة التحريرية أو بالنسبة لانتفاضة أكتوبر كانت بسيطة في اشتعالها لكنّها متوهجة في سطوعها بفعل الرّغبة العميقة للفرد في تحقيق مطلبه الوجودي في الحرية والكرامة والتعدّدية والخبز النّظيف.
عبد الحفيظ بن جلولي  

إرسال تعليق Blogger