قراءة تاريخية في مسارات الوصاية على الوعي الوطني
تقف الجزائر اليوم أمام أزمة سياسية غير
مسبوقة على نطاقي الخطاب والممارسة،
اختلفت بإزاء الاحاطة بمداعيها وتداعياتها جل القراءات والتحليلات، فيما اتفقت في عظيم
سوادها من ناحية أخرى على أنها اشرت لبلوغ النظام السياسي الذي حكم الجزائريين منذ
انبثاق فكرة التوحد في إطار جبهة واحدة لتحرير البلاد منتصف خمسينيات الفرن الماضي
إلى يومهم هذا نهايته البيولوجية والإيديولوجية ونضوب الخياله التنظيمي والسياسي وضيق
خياره البشري والاستراتجي وأنه لم يعد يملك شيئا يعطيه لجيل جيد في عصر تداخلت فيه
العصور والأزمنة تاريخيا وجغرافيا بشكل غير متناه يفرض تحولات مهولة في الداخل فرضا.
ظل الشعور الفطري بالوجود الذاتي الجمعي
للجزائريين حاضرا وفق مرجعيات قديمة وخالية من كل الروابط والارتباطات ذات المعنى
السياسي بشكل الحديث، فالسلط الرمزية والقبلية والدينية التي عملت طوال العهود
والعقوت التي سبقت الوجود الكولونيالي على ضمان الحافظ على وجود هذه الذات
المتناثرة في الرقعة الجغرافيا بشكل انشطاري يتواصل وفق الحاجات الطبيعية ويتضام
ويتضامن ضمن النسق الطقوسي الموروث بوصايا الوعي التلقائي.
حتى إذا ما جاءت صدمة الاستعمار كعامل
متجاوز للوعي الفطري في الوجود السياسي، تناهض الخيال الوطني المناهض لهذا التواجد
الكولونيالي بما سنحت به معاوله الفطرية ومرجعياته المحدودة في بسط المقدرة على المقاومة
في فضاء المعنى، لتأكيد وجود الذات ونفي دعوى ملء الفراغ التاريخي و الجغرافيا على
أرض الجزائر.
طبعا شكلت القطيعة التي فرضها نسق القراءة
التاريخية للاجتماع والسياسية للاستعمار إحدى أكبر أسباب الاختلاف الذي صار يصحاب
عملية تناهض الوعي الوطني وبزوغ فجر الحركة الوطنية، المرجع التراثي وعيا وتاريخا
لم يكن له المقدرة على مجابهة فكر استعماري يشكل منطلق بناء اللحظة الحضارية
للانسانية، وخير ما يمكن التدليل عليه في هذا الخصوص شك فرحات عباس الأول في وجود
الامة الجزائرية بعد أن بحث عنها في مقابر التاريخ كما اشار في إحدى رسائله، والأزمة
التي كان يعنيها فرحات عباس هي تلك التي تراءت له شكلا عبر مرآة النمط الكولونيالي
الذي أيقظ فيه وعيا تاريخيا وجغرافيا وسياسيا.
تواصلت عملية تناهض الوعي الوطني
المناهض للوجود الكولونيالي وفقط المعطيين الجدليين التاريخيين، بسؤال قبلي عن
الانوجاد الجمعي، وآخر بعدي عن طبيعة المجتمع وتصوراته، وتداخلت القراءات وفق
مرجعيات عدة كان في بعضها دورا كبيرا للفكر الاستعماري، والبعض الآخر متفاعلا مع
ما يجري في التخوم الجغرافيا والتاريخية للجزائر مثل حركات القوميات السياسية
والدينية والوطنية في المشرق، أو الافكار ذات المنشأ والمبدأ العالمي كالشيوعية
والفرانكفونية والماسونية وغيرها، وأندرج الصراع
حول حقيقة الذات وسط طاحونة ضارية جارية على يوم ناس هذا بشتى سبل الخطابات وآليات
الممارسة السياسية.
كل ذلك أضعف القوى الوطنية المواجهة
للاحتلال فكرا وسلاحا، ما استدعى اللجوء إلى الاطار التنظيمي الموحد، الذي وحده
كان بمستطاعه أن يحقق الانتصار على الاستعمار كوجود دخيل على الجغرافيا الوطنية
وتاريخها، لكن لا يوحد القراءة والفهم للتاريخ المشترك، لهذا سيتم الاجهاز على
اسئلة التاريخ بوصفها مؤسسة للوعي الوطني المشترك ومصادرتها سياسيا، بل الأكثر من
ذلك اتخاذها كذريعة للحيلولة دون تخليص الدولة من هيمنة اتحاد سياسي خُلق لوظيفة
ظرفية وامتد لوظائف أخرى في ازمنة أخرى لا يسعها نطاقه البيولوجي ولا الأيديولوجي.
الاسترابة من المقدرة على التعايش
الجمعي
لا شيء بمستطاعه تفسير استدامة الوصاية على الوعي
الوطني وضرورات وسبل التعايش الجمعي الحاصلة بعد أزيد من نصف قرن عن الاستقلال، من
تلك الاسترابة التي تتجلى كهاجس دائم مستقر ومضمر في خطابات السلطة المتغيرة في إطار
استمرارية مرجعيتها القائمة على القبضة الامنية أداة وهاجس التآمر لغة، إذ لم
تستنكف خطابيا ولا سلوكيا عن الاشارة والتذكير بمبادئ نوفمبر كما تعلق الأمر
بالشأن الجمعي، وكأن الخطاب الرسمي لا يرى وعيا وجوديا للذات الوطنية يسبق هذا
التاريخ، وهذا يعتبر في حد ذاته خطأ بل وخطرا في مجال التموقع بفضاء التاريخ
القُطري، فالنوفمبرية لا تعدو أن تكون محطة المفصلية في مسار تحرر "الوطنية"
وليست مؤسسة لها، لهذا سرعان ما تفجرت اسئلة التأسيس الوطني مباشرة بعد نهاية مهمة
"الاتحاد" الذي جسدته جبة التحرير الوطني، واندرج التاريخ بكل تناقضاته
المرجعية في طاحونة الصراع السياسي والاثني والديني في المجتمع، وهو ما عسر وبشكل
رهيب من عملية التحول إلى مجتمع مدني تعددي يقوم على حوار داخل اتحاد متنوع لا
تنوع أحادي.
ظاهرة غريبة وستمتد لفترة طويلة ومن تاريخ الجزائر
المستقلة وستعمل على المفاقمة من معاناة الشعب وطموحه الغريزي في التنوع والاختلاف
والإفلات من قبضة وهمينة الاحادية وافاقاتها على كل الصعد الثقافية والاقتصادية
والسياسية والاعلامية، إلى أن جاءت "الاكتوبرية" سنة 1988 لتضع "النوفمبرية"
موضع القراءة النقدية بل أن البعض أحالها إلى قراءة نقضية حين ساءل الذات الجمعية
تاريخيا، بعدها سيتسع نطاق الاختلاف إلى حقل الصراع المسلح في علمية ممنهجة لكسر
إرادة تفعيل التنوع السياسي والثقافي والفكري، وتحال الاسباب إلى عدم مقدرة
المجتمع على إيجاد أدوات التعايش الجمعي خارج السياجات الايديولوجية والتنظيمية
التي أتت بها "النوفمبيرية" وأعيدت بالتالي "الأكتوبرية" إلى
مجال النقد والنقض والتشكيك عبر كل مستويات القراءة في التجربة التعددية بالجزائر.
الوصاية على الوعي الوطني
إفشال "الأكتوبرية" بوصفها منطلق العودة إلى
التعددية التي نشأت من اسئلة الذات الجمعية اثناء فترة الاستعمار كما أشرنا إليه
سابقا، والتي جسدت فشل مشروع قيادة دولة بمبادئ تنظيمية وأجهزة ظرفية تداعت لها
قوى التنوع من أجل هدف معين وهو تحقيق النصر العسكري على المستعمر أعاد ـ إفشال
الاكتوبرية ـ مسألة الوعي الوطني إلى خلقة الوصايا الفوقية، التي عملت وفقط عدة
آليات على إعادة إنتاجها من خلال فرض هيمنة وفق نمط أحادي مضمر أو متخف في ثوب
تعددي مستغلة في ذلك الوفرة الريعية الكبرى المتأتية عن ارتفاع اسعار النفط في
السوق العالمية وتنامي الخطاب المعادي للإرهاب فأعادت تشكيل خطاب الاعلام من خلال
احكام السيطرة على الثقيل بالموازاة مع فرض مبدا رفض فتح التعددية أمام القطاع
السمعي البصري، وامتلاك مصير الصحافة المكتوبة عبر احتكار الاشهار.
على صعيد العمل السياسي فرضت خريطة سياسية تعددية وفق
نمط "أُسروي" وهذا من خلال إعادة الاطار الاتحادي "النوفمبري"
ممثلا في جبهة التحرير الوطني، كأم دائمة لتشكيلات سياسية كتكوتية لا تكبر حجما
ولا طموحا ولا شعبية، محنطة بمنطق موميائي ! هي الاحزاب التي لا يمكنها أن تعيش بمبعدة عن السلطة، واستغلت مؤسسات
الدولة في هذا المجال لتكريس الواجهة التعددية الصورية أو ما بات يعرف لاحقا في
أدبيات الخطاب السياسي المعارض بديمقراطية الواجهة، فاجتماعيا احتكرت السلطة المُفشلة
للأكتوبرية المنابر الدينية كالمساجد من أجل الهيمنة على العقل والعاطفة الدينية
وبسط الوصايا على الوعي الوطني المجروح، كما صادرت مرافق العمل الخيري حتى لا يعلو
شأن أحد اجتماعيا على شأنها في الوسط الشعبي.
الاحتواء عبر نظرية حماية الداخل من الخارج والخارج من الداخل
خطاب الفشل "الأكتوبري" الذي نسجته السلطة
الشمولية التي استعادت الدولة بعد التحول عن التعددية، عمل على الترويج لمشروعها
على نطاقين أمنيين حادين واحد يقوم على هواجس الداخل وما تركه جرح الصدام الأهلي
في الحرب التسعينية أو ما سمي فيما بعد في أبجديات المصالحة والوئام بالمأساة الوطنية، بزعم أن
المؤامرة خارجية نفذت بأياد داخلية واستهدفت تقويض معالم الدولة الجزائرية الحديثة
التي بنتها "النوفمبرية"، وبالموازاة مع ذلك نراها تزعم حماية الخارج من
خطر الداخل أي الارهاب الذي تعانيه البلاد والذي يمكن أن يتسرب للخارج في حال لم
تُقدم له كل سبل المساعدة المادية والمعنوية والتأييد الدولي للخلاص من الارهاب وتداعياته،
وذلك ما آخر وبشكل مفجع عملية تحول المجتمع الجزائري مرحلة ما بعد على الارهاب إلى
مرحلة التنمية والعودة إلى التعددية الحقيقية والصحيحة غير المزيفة والفاسدة.
معلمان تاريخيان مكتملان غير
متخاصمين !
يتضح مما سبق ذكره في الاستشكال السياسي القائم حول
مسلة التحول الديمقراطي في الجزائر أن ثمة
تداخل كبير بين التاريخي والفكري والعسكري تجاوز بفعل تراكمه كإرث مسكوت عنه في
تنامي حجمه هذا الاستطاعة إلى حلحلته في فترة التعددية الوجيزة التي عاشتها
الجزائر نهاية الثمانينيات وبدية التسعينيات، والتي لم تجد الطبقة السياسية الفتية
الوليدة طرق اداراتها بالشكل الاليق مما أتاح للجناح المغتنم للوطن والدولة منذ
منتصف الخمسينيات المجال الخصب لاستعادة المبادرة بحجة عدم القدرة على انبساط
التعددية في الجزائر بالنظر إلى الخلافات الفكرية والاثنية التي تختزنها الذاكرة
الوطنية للفترة المفصلية في مرحلة الوعي الوطني وهي تلك التي سبقت ميلاد جبهة
التحرير الوطني.
والجدير بالإشارة هنا أنه وقبل أن تولد جبهة التحرير
الوطني كان العمل السياسي قائم على القضية الوطنية وسبل تحرير الوطن من الاستعمار،
وذلك عبر قراءات مرجيعة تاريخية للوطنية تناغما مع التيارات الفكرية و السياسية
التي كانت تؤثر في الداخل وفي العقل السياسي الوطني، وعليه يظل من الأهمية بموضع
التأكيد على أن منشأ السياسة في الجزائر كان نضاليا ضد عدو خارجي وعليه انبنت ثورة
التحرير وهو ما يبرر خلو هذه الثورة من الفكرة الفلسفية التي عادت من توسم الثورات
التي تحدث ضد عدو الداخل مثلما كان عليه الأمر مع الثورات الأوروبية التي أطاحت بالأسر
المالكة في بريطانيا وفرنسا وروسيا.
هذا الاستنتاج حول الشكل النضالي البحت لانبثاق السياسة
كنشاط مجتمعي تحريري من قبضة الخارجي، يحيلنا بالضرورة إلى رصد عمر السياسة
بالجزائر بمفهومها الواسع خارج الأطر الظرفية ومن خلف سياجات التنظيم الاحادي الذي
عاشته في فترة ما بعد الاستقلال، وهو الرصد الذي سيمكننا من فهم وبشكل موضوعي
أسباب عدم النضج السياسي في معطاه التعددي سواء لدى النخب أو الاوسط الأخرى من
الشعب.
فإذا كنا قد سلمتا جدلا بما سبق وسقناه حول طبيعة
العلم السياسي في انبثاقاته الأولى وسيرورته طوال فترة الاحلال الفرنسي والذي كان
وسيلة للنضال من أجل التحرر من الاستعمار، فهي بذلك اتركزت لدى الناشطين فيها على
مشروع جوهري يروم استعادة السيادة وبناء وطن بكل مؤسساته، وهو الهدف الذي تداعت له
كل الاطياف في إطار حركة تجميعية اسمها "جبهة التحرير الوطني" التي رأست
هذا النمط السياسي ـ النضالي، ورفضت بعد تحقيق هدف التحرر انهاء مهمة جهازه إلى غاية
أكتوبر 1988 وهي الفترة الوحيدة والوجيزة التي مورست فيها السياسة وفق شرطها
الموضوعي في التاريخ لمدة ثلاث سنوات فقط أي إلى غاية انتخابات 26 أكتوبر
1991 لتعود السياسة كنشاط عقلالني مؤسسي
حر لتعود للمصادرة مجددا بحجة أزمة تهدد الوطن من عدو داخلي هاته المرة، فتم إعادة
انتاج أحادية وفق شرط اللحظة التاريخية أي بشكل تعددي، نتج عنه بروز مشاكل مهددة
للكيان الوطني تمثلت في ارهاب الفساد والحرب الفوقية على مصادر الخيرات، تأتي
الازمة الحالية المتعلقة بترشيح الرئيس المريض لعهدة رابعة في صدارة مظاهرها.
والخلاصة وهي أن الحديث عن أي تحول ديمقراطي جاد سوف
لن يكتب له النجاح ما لم يتم تحقيق تحول سياسي مؤسسي حقيقي والصحيح الذي يعكس
مستوى الوعي الوطني الجاد وذلك عبر خطاب تعددي متنوع حر يرقى على مستوى البديل
الثوري النوفمبري ويصحح اخفاقات الاكتوبرية الموءودة، بمعنى آخر، أن يعاد تصحيح المعلمين
التاريخيين البارزين في مسار التحول في الوعي السياسي بالذات الجمعية على مستوى
الفهم والسلوك "النوفمبري" الذي وحد التعدد و"الاكتوبري" الذي
عدد الوحدة وهذا من أجل الوصول إلى بناء وطن صلب وراق يُصلح ما بين الأنجال ويصلح
لكل الاجيال.
بشير عمري
كاتب صحافي جزائري
إرسال تعليق Blogger Facebook