0
من خطبة لأبي بكر الصديق ''رضي الله تعالى عنه'': تفكروا عباد الله فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم، أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمرّوها، أين الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم، أين الذين بنوا المدائن وحصّنوها، لقد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور....


لقد بدأ ''رضي الله تعالى عنه'' خطبته بكلمة ''تفكروا'' داعياً إلى إعمال الفكر وأخذ العبر من المحيطين المكاني والزماني، تلك كانت وسائل الإعلام في عهده ''الشعر والخطابة'' وبهما وبالتأثير القرآني ومن خلال الندوات المفتوحة للحوار الحر والنقد وتبادل الرؤى عبر المنابر والمساجد، تمّت صياغة الإنسان العربي بشكله الحضاري الذي عرفته البشرية رائداً لها لقرون عديدة.


وإذا كان البابليون في العراق ''3000ق.م'' قد استعملوا الإعلانات لأغراض تجارية من خلال اللافتات التي رفعت على متاجرهم، فإنّ الهدف من الإعلام في عصر الخلافة الراشدية، عصر صدر الإسلام، كان إعادة صياغة الفكر العربي صياغة تتناسب مع المرحلة التي كانت تمرّ بها الأمة العربية والأمم المحيطة بها، وقد أجادت إعادة بناء الفكر، فكانت الأساس الذي انطلقت منه جيوش الفتح وجموع الدعاة...!


في عصرنا الرّاهن تحول أغلب الإعلام العربي إلى ما يشبه السخافة، فالقنوات الفضائية في غالبيتها قنوات هابطة، حولت معها الفهم الجماعي والوعي الجماعي إلى ما يشبه الخرافة! فالفكر الرديء كالشجرة الرديئة، لا يأتي إلا بثمر رديء، ذلك أنّ من يزرع الريح لا يحصد إلاّ الزوبعة، والشوك لا يُجنى منه عنب، والأفكار المتضاربة والمختلطة أشبه ما تكون بـ كشكول الشحاذ الذي يجمع فيه ضروب المآكل كما تحضره دون تمييز بين حلو وحامض وطيب وتفه، فتنتقل بنا الأفكار من جد إلى هزل ومن درة إلى بعرة.


ولما كان العقل بالنسبة للدماغ كالروح بالنسبة للجسد، فإنّ تصحيح ما وقر في قلوب الكثيرين من أصحاب العقول المقولبة، أمر صعب صعوبة الساعي وراء تبييض حبشي بصابونة سحرية والأمر مستحيل!


في المرحلة الابتدائية يتلقى التلاميذ المعلومات بذهن فارغ، فلا يسألون عن صحتها عند تلقيها ثم تتحول مع الزمن إلى أسس يبنون عليها تفكيرهم، وهذا هو حال الإعلام المعاصر فهو يستهدف بالدرجة الأولى شرائح المغفلين من الكبار أصحاب الذهن الفارغ ممن يفتقد الخبرة اللازمة للحكم على ما جاء في الإعلان والإعلام لتنزرع في عقولهم أفكاراً مسمومة تستقر في لا وعيهم وقلوبهم على أنها مسلمات عقلية لا تحتاج إلى برهان أو دليل، ليصبح معها جمهور المغفلين جداراً صلداً أصم يقف عائقاً في وجه التقدم الإنساني والانفتاح الفكري!


إنّ السعي الجاد إلى بناء عقلية منهجية لا تسلّم بالشيء الذي يلقى إليها على عواهنه، أمر بالغ الأهمية لإعادة صياغة الفكر العربي المعاصر لتخليصه مما علق به وترسخ من رواسب طرائق التفكير المتخلفة، فكر منفتح بتنا بأمس الحاجة إليه في أزمتنا الراهنة، فكر يعتمد على تمحيص الحقائق وإسنادها إلى الأدلة والبراهين العقلية، فكر لازم لتحرير العقل والفكر معاً من اسر الأفكار المقولبة المسبقة الصنع المهيمنة على العقول...

 فالتفكير المقيّد بعقلية مقولبة غير قادر على التعبير السليم عن فكر قويم، مثله كالوردة غير القادرة على التفتح، علماً أنه علينا أن نكون على قناعة تامة من أننا إذا كنا على صواب، فهذا لا يعني أنّ الآخرين على خطأ!

 تقول الحكاية إنّ الحجاج بن يوسف الثقفي قال للمهلب بن أبي صفرة: أنا أطول أم أنت؟ فأجابه: الأمير أطول وأنا أبسط قامة منه !
 
بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger