0
بمزيد من الدّهشة والفرح قرأت رد الأستاذ بشير عمري حول تعقيبي على أفكاره في مقاله الفائت، ولعله من الجدير بالذكر حصر الخلاف القائم، فمعضلة فلسفة الثورة، كانت هي الإشكال الذي جعلني في نوع من الجهوزية الفكرية للتعاطي مع المقال الآنف الذكر،ثم تشعّب الرد إلى بعض النّقاط الأخرى،
 ولقد فعل حسنا الأستاذ بشير حين ردّ جوهر الخلاف إلى المشكل الإصطلاحي، وأصّل من خلال ذلك لمجموعة من المفاهيم التي تتعلق في مجملها بالثورة والوعي الوطني.
التاريخ كحركة والثورة كفلسفة:
مما ليس فيه شك أنّ الثورات هي المحصّلة النّهائية لاستقرار الوعي على مؤشر التّغيير الجدري للوضع القائم، وهو ما يمنح شكلا تلقائيا من الفهم، السّطحي أو العميق، لموضوعة الثورة، ويبدو لي أن الرّؤية لتبلور معنى الثورة في الوعي والعمل على تحقيقها ثم تفجّرها، يجعل منها موضوعة قابلة للإندراج تحت المعطى "فلسفة"، وإن كانت الأفهام تختلف في تقييم مدى تجلي هذا المعنى في الثورات، ويكون ذلك حسب رأيي طبقا لأهمية الفاعل الماقبل ثوري، المتمثل عادة في الفكر الذي يؤسّس الرّؤية لفعل الثورة، لذلك عندما قيل عما يسمى بـ"ثورات الرّبيع العربي" أنها كانت دون قيادة ودون تصوّر مسبق لفعل حدوثها وتفجرها، تحدّثت التّحاليل السياسية عن هشاشة سيرورة هذه الثورات، كونها تفتقد للماقبل والمابعد، حسب تعبيرات الأستاذ بشير، وهذا مما لا شك فيه، يمثل المؤشر الأساس في عملية البلورة للفكرة الثورية، ولقد أجاد الأستاذ بشير في حصر عملية انبثاق المفهوم الفلسفي للثورة، ولا أختلف معه في ذلك، أي في أن الرّؤية للثورة كانت محصورة في الماقبل، أي حصول الحدث الثوري، لكن انفقاد المابعد الذي يهيكل شكل الوجودانية المجتمعية في المابعد الثوري، هو الذي يعتبر المعيق في سبيل وسم الثورة بوصفها الفلسفي، وقد يكون محقا في ذلك، لكن أسئلة كثيرة تطرح في هذا المجال، وخصوصا وأن فواعل  الثورة الجزائرية من أمثال العربي بن مهيدي الذي كان واعيا بمسار الثورة حين قال مخاطبا زملاءه في اجتماع الـ 22: "ألقوا بالثورة إلى الشارع فسيحتضنها الشعب"، وكان أكثر وعيا بتاريخية الفعل المناهض للإستعباد، حين خاطب الجنرال بيجار قائلا: "إنّكم ستهزمون لأنّكم تريدون وقف عجلة التاريخ، وإنّنا سننتصر لأنّنا نمثل المستقبل الزاهر"، فالوعي بالمسار والوعي بالحرية هما اللذان خلخلا أركان الخمود وأحالاه بركانا ينفجر في وجه المستعمر، فثنائية الشارع والشعب، تحرّر الثورة من مكبّلات الفلسفة النّظرية وترمي بها في أتون الفلسفة العملية المجاورة لليومي ومعاناة الفاعل الاجتماعي الذي طحنته ميكانيزمات الواقع الغالب، لأن العقل الثوري كان محايثا للشارع كفضاء لانطلاق المعنى الكامن في التحرك الجماعي للأفراد، فوقود الثورة هو الشعب، ويعي أهمية العملية التي ستتخذ من الشارع مركزا لها وستُعرف مستقبلا بالعمليات الفدائية، وأيضا حرب العصابات، وكان أيضا عليما ـ أي العقل الثوري ـ بطبيعة الشعب الذي يمثل العنصر الجوهري في عملية التحول المأمولة في مفهوم الثورة، فالشعب لا يتحرّك إلا إذا تحقق التوافق بين التصور العقلي للحركة وانضباط الكتلة الآملة في فعل الحركة، أي الآملة في الحرية، ثم هناك نقطة جوهرية أظن أنها فاصلة في المابعد والماقبل، والتي أخالها تبدو متحقّقة في مسار الثورة، وهي وعي بن مهيدي كعقل فاعل في الثورة لموضوعة الأمل، وهو ما عبّر عنه في خطابه لبيجار بـ"المستقبل الزاهر". لا أقول انطلاقا من مقولة الشهيد العربي بن مهيدي بأنّ سمة فلسفة كانت موجودة على الدوام في الفكر الثوري، بل لعلني أوافق الأستاذ بشير عمري في غياب المابعد، لكن لم تكن أيضا مفقودة على الدّوام، وخصوصا أنه ربط رؤيته للثورة بمسار التاريخ والوجود فيه، ذلك أن ما يحفظ للذات وجودها هو وعيها بالتاريخ كحركة وليس كوقائع، فعجلة التاريخ تتحرّك لأنّ الفاعل التاريخي يفعّلها بالحدث، الذي يصنع الأمل في تحرير مسار التاريخ من اليأس القاتل للمبادرة، وكانت فعلا الثورة تحمل مبادرة الذات المستعمَرة لأجل أن تتحرّر من قيود التكبيل الإستعماري.
الإصطلاح ومفاهيمية الرّؤية للثورة:
تطرّق الاستاذ بشير لمفاهيم التحرّر والحرية والإتحاد والتوحد، وخلص إلى أن التوحد الذي حصل في إطار جبهة التحرير كان سببا في في انفقاد الرّؤية للحرية باعتبارها المأمول من العملية الثورية، وقد تكون رؤيته صائبة إلى حدّ بعيد، لأن الثورة كرؤية وكهدف كانتا محل عملية إجرائية وذات أهمية بالنّسبة للمضطلعين بها، إلى تلك الدرجة التي فصلت في الوقائع والتطورات، وخصوصا أزمة حزب الشعب وانقسامه إلى مصاليين ومركزيين، حسب منطق من ليس معي فهو بالضرورة ضدي، وهو الحال الذي أدّى إلى العزل السياسي لأب الوطنية والنّضال الجزائري مصالي الحاج بعد أن أجمع أعضاء لجنة الـ21 على ضرورة تفجير الثورة التحريرية، وكانت هذه رؤيتهم التي تحتّمها ظرفية الإستلاب والهيمنة الإستعمارية وضرورة التحرر منهما، ولكن كان هذا أيضا أوّل ملامح الأزمة السياسية التي سوف تستمر في الوعي السياسي الوطني إلى راهن الممارسة السياسية، حيث الموقف الذي اتخدته الثورة من مصالي الحاج، كان لصالح الإقصائية الثورية التي لا تعتد بالإختلاف، قد يقول قائل أن منطق الثورة وقتذاك كان يفرض الحسم في مسار التفكير في تفجير الثورة، وهذا صحيح إلى أبعد الحدود، لكنّه في ذات الوقت كانت له سلبياته على مستقبل العملية الدّيموقراطية التي غابت بفعل عدم الوعي بما أسماه الأستاذ بشير عمري بالمابعد، رغم أن أب الوطنية الجزائرية مصالي الحاج في الإجتماع الشعبي 02 أوت 1936 قال بعد أن رفع حفنة تراب: "الجزائر ليست للبيع ولا يمكن ربطها بفرنسا"، والحقيقة أن المقولة تقود إلى مفهومية الوعي الوطني من خلال بداهة المعطى التحرّري الحاضر في الوعي الثوري، وبالتالي كانت الرّؤية للحرية تُنسج من خلال الإحساس بالتحرّر، وهو ما أفقد الحرية مضمونها الفلسفي كحالة ضامنة لتفتق مسارات الممارسة الدّيموقراطية حالا، أي في راهن الثورة، أو مستقبلا، أي بعد التخلص من الهيمنة الإستعمارية، وهذه القراءات في الوعي الوطني أو خطاب الثورة، تندرج ضمن إثبات وجهات النظر للثورة من خلال اعتمالات المظاهر الأزموية في حركة الثورة من خلال الوعي بالأشياء، وليس بالضرورة أن الفاعل التاريخي كان يبني قصدياته إلى هكذا استنتاجات، لأن السلوك السياسي تماما كما سلوكات الأفراد القابلة للتحليل النّفسي الذي يفسر حركتها من وجهة نظر سلوكية، يعدّ قابلا للإسقاطات النظرية والتطبيقية أيضا لعلم النفس أو الطب النفسي، دون أن يكون المريض أو السلوك السياسي قاصدا تلك المظاهر. فإحساس مصالي بأنّ الجزائر ليست للبيع، يقود التفكير في راهن الحالة السياسية للوطن إلى تراكمات الصراع بين الأجنحة لصالح تغليب موقف على آخر دون الأخذ بحسابات الحوارية القابلة لافتكاك صوابية الموقف ولوكان مخالفا، وهو ما يستمر في التمظهر من خلال الإعتداد بالفصيل دون إمهال الحوارية الوطنية في استبيان خريطة الطريق المبنية على استراتيجيات الحرية  وتكتيكات الفعل المناوراتي الهادف إلى ترسيم حدود التواجد السياسي من خلال المعركة البرامجية للأحزاب.
معرفية المعطى وزوال التلاشي:
إن من أهم  مظاهر التخلف، عدم الحسم في معرفية المعطيات وتداولها مجتمعيا، بمعنى تخليص المخابر الجامعية من تضخمها الإستهلاكي للمعرفة والدفع بها إلى مستويات الإنتاجية المعرفية، وهو ما يجعلها منفتحة على المجتمع، وهو ما يحل المعضلة البنيوية التي تطرّق إليها الأستاذ بشير عمري والمتعلقة بـ"تلاشي شهوة الإقدام على التاريخ الثوري"، فالنّاشئة ليست سوى مكوّن من مكوّنات المجتمع، تتأثر بالوضع العام الذي يسوده، وبالتالي فهي تنظر إلى التاريخ والوعي به من خلال ما هو قادرٌ هذا التاريخ على إنتاجه، حيث تتحوّل المعطيات النظرية أمام ناظريه إلى تحققات كيانية تحقق الإندراج المعرفي والواقعي في حركة التاريخ، وما أزمة خروج الطلبة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي هاتفين بالتاريخ في المزبلة، ولقد سماهم حينها الراحل مولود قاسم بالشماريخ، إلا تعبير حاد عن أزمة "التاريخية" ودورها في تشكيل الوعي بالثورة واستمرارها، من خلال مبادئ الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية، فراهن الجامعة الغائب في استهلاكيته للمفاهيم وتعطيل دوره في التحليل الفلسفي والتاريخي لمعطى الثورة  والسياسة وفق علائقهما المختلفة بالذات الوطنية الحالمة أنذاك بالإستقلال وحلم التشاركية، هو ما أوصل البحث التاريخي إلى منعرجات خطيرة لعل أهمّها القطيعة مع التداول التاريخي في الوعي والواقع، وهو ما جعل خطاب الثورة حبيس الإستهلاك الإيديولوجي خارج أطر النقدية التاريخية التي تتعامل مع التاريخ طبقا لقوانين الحركة، وهو مثلا ما أدّى على مستوى المذاهب إلى انهيار العقيدة الشيوعية لأنها آلت إلى الجمود العقائدي. 
عبد الحفيظ بن جلولي. 

إرسال تعليق Blogger