ضمور
"الفكرة" كعائق عضوي لاستمرارية الثورة
طالعت مقال الاستاذ عبد الحفيظ بن جلولي
الذي تضمن تعقيبا مسترسلا حول ما سبق وأشرت إليه في المقال السابق المنشور بموقع الدبلوماسي
القيم تحت عنوان "أزمة التحول الديمقراطي في الجزائر، قراءة تاريخية في
مسارات الوصاية على الوعي الوطني"
وقد وقفت في مقال الاستاذ بن جلولي عند
اشكالية بالغة الخطورة عادة ما تعسر من سبل إيجاد أسس مشتركة في التعاطي الفكري بموضوعية
اللغة ولغة الموضوعية مع معضلة التاريخ وتداعيات سيرورته الممتدة زمكانيا في حياة
مجتمع في شتى مجالاته عبر كل مستويات الوعي به، إنها إشكالية المصطلح اللامتناهية
عادة في التبدل والتغير انسجاما مع التطور التلقائي لموضوعات اللغة المصاحبة
للتطور الشأني الانساني العام.
جاء تركيز الاستاذ عبد الحفيظ على مصطلح
"فلسفة الثورة" بوصفها ترياق العمل الثوري الذي تمخض في حالتنا
الجزائرية بكل تناقضاته وايجابياته فأنجب وطنا متحررا، تركيز أره شخصيا يؤكد أن
مسألة المصطلح في أدب الكتابة التاريخية تظل ضاربة في عمق الاستشكال واللبس
القرائيين إذا لم تحط بالكثير من الدقة المراعية لخصوصية لغة الخطاب التأريخي الجدلية
التي تصله بالمستجد الاصطلاحي وتوالد المفاهيمي.
حين يصبح الوعي الثوري عرضة لـ"القابلية
للاستعمال"
لست من هواة التعاطي الاكاديمي مع
الاشكالات السياسية ذات الاصل التاريخي لا سما في الحقل الثوري الجزائري الذي هو
محور حديثنا، والذي رتق فيه السياسي بالعسكري بالأيديولوجي رتقا بشكل استحالت معه
كل محاولات الفتق الذي يسمح بالولوج إلى مكمن السر الذي يوضح كيف تشكلت القُطرية
الجزائرية، وبالمرة يفسر أسباب هذا الاستعصاء المستديم على حلحلة معضلة التحول
بالسلطة من مؤسسة الشرعية ثورية على شرعية مدنية مؤسسة، كما وأني لست من الفضاء
الاكاديمي حتى أدعي استطاعة الخوض في أمره وفق مناهجه، لذا انأى بنفسي دوما عن وضع
تعريفات مسطورة مبتورة للمفاهيم التي أود من خلالها استضاح وإيضاح الأمر هنا،
كما يحدث عادة مع كل
الدرسات النظرية التي تروم اسقاط تلكم المفاهيم التحليلية على الوقائع الثورية
المستشكلة تاريخيا، ومن ذلك وضع مفهوم
لفلسفة الثورة إذ أكتفي بحسب ما اطلعت عليه من كتابات عنت بهذا الفضاء الحساس عبر
تجارب ثورية بالتأكيد على أنها حالة من الوعي الشامل لحتمية التغيير الكلي القائم
على التجارب القبلية والآفاق البعدية وفق مطمح منظم للتحول، فالأمر يعني بالأساس
وجود نسق معلمي يقود الوعي الجمعي على نطاقي الشعور الدائم بألم ما قبل الثورة وضرورة التواصل مع أمل ما
بعد الثورة، بصرف النظر عن الجهاز المفعل للحراك الثوري، أي أن تتأسس استمرارية
وديمومة خط الثورة على حلقتي الألم والأمل الثوريين.
هذا الغياب المقيت للوعي المزدوج لمشروع
الظاهرة الثورية في بعدها الفلسفي هو ما يجعل الثورة عرضة لـ "القابلية
للاستعمال" إن صح الشكل الاستعاري لقابلية المفكر الكبير مالك بن بني رحمه
الله، من قبل القوى الراكبة لها، والدخيلة عنها، حيث نرى في فضاءنا العربي كيف أن
ثورة تقوم على انقاض اختها وفق مسميات عدة، مرة تصحيح ثوري، ومرة أخرى نقلب
التسمية ثورة التصحيح ! وهي كلها مبادرات فوقية ومطامح سلطوية تمارس
وصاية كاملة على الوعي السياسي للفرد والمجتمع العربيين،
اشتقاقات اصطلاحية
وانشقاقات مفاهيمية
الفكرة الثورية والدافع الثوري، الحرية
والتحرير، الاتحاد والتوحد وغيرها، وهي كلها مصطلحات مفجرة لمفاهيم تتلاقى في
الاصل وتتلافى في التوظيف وفق استراتيجيات وتكتيكات العمل الثوري وما يصحبه من
تصارعية بين فاعليه وتياراته.
فالحرية ببعدها الفلسفي ظلت مذ اشرق
الوجود الانسان بوعيه التاريخي محل سجال وجدال استعصى عبر طول الآماد الوصول إلى
صيغة توافقية بخصوصه بن شتى المشارب العقلانية، وهذا على الصعيد الفلسفي والأكاديمي
لـ "المصطلح ـ المفهوم" فضلا عن مستوى التوظيف السياسي له، إذ عادة ما
ستخدم ذاتيا أي بما يخدم المصلحة منه ولا يعدو هكذا مبتغى، بيد أن التوافق على
مطلقات اللفظ "الحرية" وفق شعريتها وخطابها في الوجود الانساني، وكان
للوعي بها في العقل الجزائري المأسور تاريخيا وجغرافيا في الفترة الكولونيالية
نتاجا لوعي استنثاني بالذات تعالى وتعاظم بانبثاق الحركة الوطنية ـ كان ـ له دوره
في السعي الجمعي للتحرر، وهنا يستقر الفرق المستتر تحت الظل الاشتقاقي الخفي
للكلمة فـ"التحرر" بوصفه جزئية إجرائية من مطلق الحالة الحرة للانسان
(الحرية) يتعلق باسترداد جزء معين من هذا الاطلاق لحالة الحرية، أي هناك آخر معين
بذاته يتطلب استعادة جزاء من الحق المتناهي في الحرية وهو التحرر والانعتاق على
صعيد الوعي الفردي والتحرير والاستقلال على الصعيد السياسي الجمعي.
التداخل المفاهيمي على مستوى اصطلاحي
الحرية والتحرير، يحيلان بالضرورة إلى تداخل متلبس آخر حدث على مستوى الجهاز
العملي لفعل التحرير، وهو الذي تأسسي على اصلاحي الاتحاد والتوحد، حيث يدرك الجميع
أن الأول يُرام به تجميع القوى من أجل خدمة قضية ما، فإن التوحد يروم الذوبان في
الاطار الواحد فكريا وعضويا ووعيا، وهو الذي حصل ضمنيا داخل الاطار البيروقراطي
للثورة حيث اجهزت القوة على المبدأ الاتحاد، وأذابته داخل جبهة التحرير وفق الواحدية
المطلقة بحجة أن كل الذين دُعوا ثم استجابوا للتوحد(الواحدية) جاؤوا فرادى وليس
كتيارات ! فاختزلت الحرية في وظيفتها التحررية من الآخر
فقط وهذا ما يفسر لغز الحرص على الابقاء
على جبهة التحرير الوطني كجهاز ادامة وإعادة إنتاج خطاب ايديولوجية التحرر لتبقى
دائما جاثمة على المبدأ الاصل أو أصل المبدأ وهي الحرية !
تلاشي
شهوة الاقدام على التاريخ الثوري
ما نجم عن ذلك الالتباس المفاهيمي والاصطلاحي
كان مهولا مع تمدد العمر الثوري للبلاد، أن تجعد وجه الخطاب التاريخي في عيون
الاجيال إلى درجة أن فترت لديها من شهوة الاقدام عليه وتناوله بعد إذا استحال في
نظرها على مجرد طلاسم في أحسن الاحوال، وديماغوجية وترهات في أسوئها، الأمر الذي
أعاد الشك في كل الذات القطرية الجزائرية من خلال طرح اسئلة سحيقة وعميقة تتعلق
بالهوية واللغة والانتماء، تنوء الاجهزة البيروقراطية للدولة القطرية ذات المرجع التأسيسي
الواحدي عن الاجابة عنها.
وعليه يظل المصطلح وتشعباته وتغييراته
الوظيفية والتوظيفية وفق تطور لغة وخطاب التحليل السياسي والفكري من أعوص المسائل
وأحسها حين يتصدى المرء لقضايا شائكة يتمازج فيها ويتماهي التاريخي بالسياسي
بالاجتماعي بالثقافي، مثلما هو عالق بالمسألة الثورية في الجزائر.
صدام جيلية المفاهيم
لذا نرى أن لرفض مفهوم الحرية "الاكتوبرية"
من قبل جهاز تحريري نوفمبري أكثر من دلالة على نطاقات شتى، في ما يتعلق ببعد
الحرية ومنطق الدولة والأمن والصراع حول السلطة.
الحرية "الأكتوبرية" التي
طالب بها جيل استلهم مبدأ الحرية من وحي لحظته التاريخية الكبرى في مراحل النهاية
لحقبة طويلة من الاحتراب الايديولوجي وخطاباته الثقافية والسياسية والاقتصادية
الذي عاشته الانسانية وفق تصارعية ثنائية
بين شرق وغرب طالت كل المجالات تقريبا، من أدق شؤون الدولة إلى أبسط شؤون الانسان،
كانت جامحة وسابقة لكل مطلب سياسي للحرية أو مطلب حرة للسياسة على اعتبار أن
الجزائري كان يعيش إذ ذاك حالة من الواحدية المطلقة صدأت في محتواها وقوتها على مستوى الشعور القاعدي، بعد
أن تصدعت على مستوى القمة فيما عرف بصراع اصلاحيي الحزب الواحدي ومحافظيه.
هذا المطلب قُبل في البدء برفض مضمر من
قبل بقايا حرس الوعي الواحدي في السلطة النوفمبرية التي كانت حاكمة بشكل مطلق
حينها، والتي لا تحمل في فهمها للحرية سوى الاشتقاق المعبر كما اشرنا إليه عن
جزئية من شمولية الحرية وهو التحرر، فرفضت أن تسلم بمبدأ الحرية لوعيها أنها حصلت
مع النوفمبرية، وأن انتفاء الآخر من الوجود الجغرافي والتاريخي يزيح بالضرورة معه
مبررات رفع الشعار التحرري، فتحولت تحت موجة مد الحرية الذي اجتاح المعمورة لاسيما
في معسكر الشرق إلى التسليم بأمر الواقع غير أنها سرعان ما انقلبت على اعقابها
وصادرت الرأي الاخر الذي ينزع عنها وشمة الثورة، ويحيل الخطيئة إلى سلوكها الثوري
في قراءة جديدة للماضي ومحاكمة للواحدية من جيل أرادا أن يعيد الاعتبار للوعي
السياسي والوطني الماضي بزخمه التنوعي.
أي فرق
بين بركات 62 وبركات 2014؟
الملاحظ عن السياسي الجزائري الثائر وبالإضافة
إلى توقيته المطلبي المتأخر، وتلكئه في أخذ زمام المبادرة، قصر مدى رؤاه المطلبية
واختزالها دوما في شقها القبلي، دونما فرض بديل كاستكمال منطقي لحركته الثورية
المطلبية، فصرخة بركات التي دوت في سماء الجزائر عقب دخول الاخوة الفرقاء في حرب
ضروس بينية مباشرة بعد الاستقلال، لم تحمل في أبعادها غير ألم اللحظة وفجيعتها
ورفض واقع ذلكم الاقتتال من دون حسم ثوري في مسألة حاضر ومستقبل السلطة وآليات
انبثاقها وسيرورتها، لذا سرعان ما تم إخماد تلكم الصرخة واستمر الغي السياسي إلى
يوم الجزائريين هذا الذي سيعرف ميلاد جديد لبركات من رحم ألم قديم جديد بعاد
انتاجه بشكل دراماتيكي وبأقصى الممارسات المهينة لمؤسسات الدولة، ومصداقية القوانين
التي تحكم البلاد، وعوض أن تتجاوز بركات زلة صرخة 62 التي توقفت عن حد المطالبة
وقف الاقتتال مفوتة بذلك فرصة استعادة الحق الشعبي في فرض إرادته وتأسيس السلطة
التي يرضى بها الشعب، راحت ـ بركات 2014ـ تعيد ذات الخطأ حين جعلت من أساس ومحور
مطلبها الثوري الهادئ رفض العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة ! وكأن
خطيئة السياسة التي يمارسها النظام الجزائري تكمن فقط في العهدة الرابعة لرئيس
مريض عاجز عن الحكم، في وقت كان يلزم بركات 2014 أن تستدرك ما أغفلته بركات 1962
وترفع سقف مطلبها الثوري الهادئ إلى مستوى أعلى ليصل على حد شرط التحول على
جمهورية ثانية تعكس مستوى الوعي السياسي للجزائر الفتية، وتؤسس لقطيعة تامة
ونهائية مع طبيعة التعامل السلطوي مع حق الشعب في صناعة مصيره السياسي والذي قام
منذ لحظة ميلاد القطرية على الاخضاع والوصايا على الوعي الجمعي ولكان من شأن ذلك
أن يصحح ما اعترى الظاهرة الثورية النوفمبيرية من اعتوار على صعيد الشق الما بعيد للمشروع
الثوري كي يؤسس فلسفته الضامنة لاستمراريته وذلك عبر ملء الفراغ الثوري بمحتوى
فكري فلسفي يغدو السمت السياسي الذي يرسي تقاليد جديدة عتيدة عصية عن التلاعبات
السياسية بقوانين ومؤسسات الجمهورية كما هو حاصل في لعبة الدستور في كل مرة.
الخلاصة هي أن الاتحاد والتحرير اللذين
عنونا الشق الما قبلي للظاهرة الثورية لم يكونا سوى بعدين مجتزئين من مفهومين أوسع
معنى وأبعد أفقا في المسار الثوري الوطني المؤسس للذات القطرية، حيث كان يفترض
التحول إلى الحرية، والتعددية، والإبقاء عليهما إلى غاية راهننا الوطني حال دون
تحرر في الوعي الطبعي باستمرارية الوجود الوطني المنسجم مع التطور الحاصل في فهوم
وممارسات دولة المواطنة التي تطورت على صعد الحريات ودور المؤسسات بشكل جنوني، تلك
هي فلسفة الثورة في بعدها الوظيفي، أي استمرارية المعلمية وسط نسق دولي، تارخي
ووجودي من التغييرات في البنى التصورات لشاكلة التعايش الجمعي.
بشير عمري
كاتب صحافي جزائري
إرسال تعليق Blogger Facebook