0
إذا كان التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصالات والإعلام هو أحد أهم مميزات العصر الذي نعيشه، فإن هذه المميزات نفسها هي أحد المشاكل التي يحذر الباحثون من تأثيراتها الضارة على الإنسان، والمدمرة أحيانا للعقول وبخاصة الأطفال الأبرياء.

 فالكلام عن التأثيرات السلبية لوسائل الإعلام والفضائيات المختلفة على البشر والأطفال بالذات مسألة مطروحة من سنوات ولا يتوقف الخبراء عن مناقشتها ولا تزال تشغل الخبراء بسبب التوسع الكبير في الفضائيات العربية والأجنبية، والتكاثر السرطاني للمحطات الفضائية مجهولة الهوية والتي لا تبث إلا '' الفضائحيات ''، التي تنشر ثقافة العنف والإباحية بين أطفال أبرياء وتطاردهم بموادها الجذابة ليل نهار كمن يضع السم في العسل.


وهناك حقيقة مهمّة لا يمكن إغفالها وهو انصراف الآباء عن الاهتمام بمادة المشاهدة التي تقدّمها الفضائيات ومضمون البرامج التي يشاهدها أطفالهم حيث أصبحوا يفضّلون انشغال الأطفال بما تقدّمه الفضائيات أيّا كان نوعه وأيّا كان تأثيره على النمو الفعلي والانفعالي والاجتماعي والجسماني للطفل على انشغالهم بالتربية والتنشئة أقل عبئا فليس هناك أيسر ولا أكثر جاذبية من الفضائيات لجعل سلوك الأطفال أقل إزعاجاً بالنسبة للآباء المشغولين دائماً، ولذلك خرجت علينا الكثير من الإحصائيات والدراسات الأكاديمية تحذر من هذه الفضائيات، وترك الأطفال أمامها يقلدون ما فيها بلا ضابط ولا رقيب.


ومن طول مشاهدة لأفلام العنف في الفضائيات ترسّخ في وجدانهم على أنّه الوسيلة الملائمة لحل الصراع والمشكلات الشخصية كالسرقة في حالة الفقر أو الحاجة إلى المال والقتل والخطف... وقد وجد أن 30 في المائة مما يشاهده الأطفال يومياً على هذه الفضائيات، يتناول موضوعات جنسية و27 في المائة جرائم متنوعة و15 في المائة تتناول لقطات حب غير بريئة لا يصلح أن يراها الأطفال.

 وفي أحدث إحصائية أمريكية في نيويورك حذرت من أن الطفل حينما يصل إلى 14 سنة، يكون قد شاهد أكثر من 13 ألف جريمة قتل على الشاشة. وهي تتفق مع ما توصلت إليه دراسة في جامعة مصرية، مفادها أن الإنسان يقضي خلال طفولته ومراهقته 15 ألف ساعة أمام برامج الفضائيات المختلفة وشاشات الأنترنت، بينما يقضي في الدراسة 11 ألف ساعة فقط، ومن ثم فإن هذه الدراسة تحذر من عواقب هذا الملل، لأن التأثير الأكبر سيكون لما يشاهدونه على الشاشات، وليس الذي يدرسونه في المدارس بحكم عدد الساعات.


وعن التأثير السلبي للتلفزيون على أطفالنا من حيث النمو العقلي والمعرفي والجسماني، فقد تمّ إجراء أكثر من 3 آلاف دراسة خلال ال 30 سنة الأخيرة عن هذا الموضوع تبيّن منها أنّ برامج العنف التي تقدّم في الفضائيات ذات تأثيرات بالغة العمق على العقول الصغيرة.

 فقد سجّلت مشاهدة أفلام العنف خلال السنوات العشر الأخيرة 22 مشهداً للعنف في الساعة في المتوسّط وازدادت بعدها إلى 60 مشهداً للعنف في الساعة في المتوسط وبالتالي زادت جرائم القتل والسلب بين الشباب على مستوى العالم.

والحقيقة أنها مشكلة كل بيت جزائري الآن، فمن منا ليس لديه ابن أو ابنة يريد تقليد فلان أو فلانة من مشاهير الفضائيات، سواء في الملبس أو المظهر أو حتى مفردات الكلام التي يقتبسها الطفل من كلمات الأغاني الهابطة، التي يسمعها ويرددها أو يرقص على أنغامها دون أن يدري ما تخفيه بين السطور.


والمشكلة أننا لا نستطيع مقاومة هذه الظاهرة، لأننا نتعامل معها من منظور أنها مجرد شقاوة أطفال، وخفة ظل تسعد الكبار وتجعلهم يبتسمون، ومع غياب الأبوين عن الأبناء تزداد المخاطرة النفسية على الطفل، لأنه لا يوجد وقتئذ تأثيرات معادلة لإعادة التوازن، وبالتالي يصبح أبطال الشاشة أمامه سواء مطربين أو عارضين... هم النموذج المفضل والمقلد لديهم...


فنجد الفتاة الصغيرة تختار ملابسها حسب ما تراه على الشاشة، وتردد ما تسمعه ولو كانت كلمات تخدش الحياء دون أن تشعر أنها تخطىء، لأنها لم تجد من يعرّفها بل أنها تجد من حولها يصفقون لها أو يضحكون من حركاتها وشقاوتها الظريفة، ولا ينتبهون إلى أن ذلك مؤشر خطير يجب محاصرته من البداية، حتى يمكن السيطرة على أولادنا وبناتنا.


ولقد أثبتت إحدى الدّراسات العالمية أنّ معدّل حرق الجسم للسعرات الحرارية أو الهضم وتمثيل الجسم للمواد الغذائية يقلّ في المتوسط بمقدار 14 في المائة عند مشاهدة الفضائيات عن هذا المعدل عند النوم على السرير.


إنّ معدل نمو المهارات اليدوية والحركية والعضلات الموجودة بالذراعين والساقين عند الأطفال الذين تصل ساعات مشاهدتهم إلى أكثر من 3 ساعات يوميا يقلّ بفارق نمائي منتظم قدرة عام ونصف عن أقرانهم الذين تقلّ ساعات مشاهدتهم للفضائيات عن ساعة واحدة يومياً، وأنّ الأطفال من الفئة الأولى ثبت أنّهم يخسرون الكثير من الأنشطة البدنية والمهارات الرياضية...


وتبعاً لذلك فإنّ معدل حرق السعرات الحرارية وخلال المشاهدة عن معدل حرق هذه السعرات خلال النوم وأنّ الأكل ومواصلة المشاهدة هما السببان الرئيسيان للسمنة المبكرة التي يكتسبها الأطفال والمراهقون والكبار.

 وارتباط الطفل لساعات طويلة أو التصاقه بالفضائيات أو الأنترنت يعرضه لخطورة امتصاص كمية كبيرة من الإشعاعات الضارة للعين والجلد والأعصاب والمخ على المدى الطويل، بل إن الأطفال الذين يتمتعون بنشاط كهربي زائد لا يجب أن يتعرضوا كثيراً لهذه الإشعاعات، حتى لا تنشط البؤر الصرعية داخلهم وتسبب مشاكل في الجهاز العصبي.


كما أشارت الأبحاث التي تأخّر معدل المشي والوثب والجري لدى الأطفال الذين تزيد ساعات مشاهدتهم على 3 ساعات يومياً مقارنة بأقرانهم الذين تقل ساعات المشاهدة عن ساعة واحدة يومياً.


إنّ إدمان مشاهدة الفضائيات يؤثر سلباً على الأطفال، فهو يشجّع على العلم السلبي والذي يكون فيه الطفل شبه غائب عن الوعي لكافة المؤثرات المصاحبة لتجربة المشاهدة، حيث تعمل هذه المؤثرات على وصول الطفل إلى حالة اللاوعي أو التخدير وتؤدّي هذه المؤثرات من الناحية العلمية إلى انحسار وتقلّص انتباه الطفل، فيبدو أقل صبراً واحتمالا أو تقبّلا لأيّة برامج أقل جذباً له، كنشرات الأخبار والبرامج الدينية والعلمية والبيئية، والذي يزيد من إصابة أطفالنا باضطراب الانتباه واستخدام جهاز التحكّم عن بعد حيث يشجّع الطفل على تقليب ومشاهدة لقطات منها بالتتابع وهذا بدوره يؤدّي إلى مزيد من تشتت الانتباه.

وقد أشارت الدراسات والبحوث الحديثة، أنّ الأطفال ذوي المشاهدة المكثفة يحققون درجات منخفضة على اختبارات الذكاء مقارنة بزملائهم الذين لا يشاهدون، ولا يعني هذا بالضرورة أنّ الفضائيات تسبّب انخفاض نسبة الذكاء وإنّما العلاقة هنا إرتباطية وليست سببية فقد ثبت أنّ الأطفال المتفوقين تحصيليا أقل اعتماداً في مشاهدة الفضائيات في المتوسط مقارنة بأقرانهم العاديين والمتأخرين دراسياً.


لقد أجمع العديد من الباحثين على أنّ دوافع ومهارات القراءة انحسرت وتقلّصت لدى الأطفال، وأنّ الفضائيات حلّت محلّها وأعاقت نموّها وباتت ضرباً من المحال حيث تتطلب تجربة مشاهدة الفضائيات مجهوداً ذهنياً أقل من القراءة التي تعتمد على عمليات عقلية لا تستثرها الفضائيات، وهي التدريب على نطق الحروف ومعاني الكلمات، كما أنّ مشاهدة الفضائيات تتطلّب تركيزاً أقل واستثارة محدودة لقدرات التخيّل كما أنّها تحدث تحوّلا في نشاط المخ من موجات متعلّقة باستثارة الوعي والانتباه إلى موجات أخرى تثير الخمول والسلبية.

 وقد قام الباحثون بدراسة استهدفت تحديد أثر الذكاء على الفروق التحصيلية الناتجة عن المشاهدة وتمّ اختيار عيّنة شملت 1350 تلميذاً من الصف السادس التابع بإحدى مدارس الضواحي القروية، من ذوي نسب الذكاء العالية ثمّ قسّمت هذه العيّنة إلى مجموعتين إحداهما تصل إلى ست ساعات في المتوّسط يومياً بينما تصل ساعات المجموعة الأخرى إلى 3 ساعات في المتوسط وقد توّصلت هذه الدّراسة إلى تفوّق المجموعة الثانية في اختبارات القراءة والتحصيل الدّراسي والفهم والاستيعاب.


وقد تزامن مع نتائج هذه الدّراسة عدّة أبحاث عالمية وجاءت متطابقة في مستويات المهارات والمعارف والأنشطة والتي تراجعت وخاصة القراءة والكتابة وكذلك العمليات الحسابية المصاحبة لها تراجعا ملحوظا ممّا يظهر انحسار معدّلات النمو العقلي المعرفي، كما لا ننكر أنّ المشاهدة المكثفة للفضائيات يؤثر تأثيراً سلبياً على القوى والوظائف العقلية التي تقف خلف التخيّل والابتكار بصورة عامة والطلاقة الفكرية والتعبيرية.


والمحصّلة من كل هذه الدّراسات والأبحاث العالمية التي تؤكّد أنّ المشاهدة المكثفة ولفترات طويلة يومياً تؤثر تأثيراً سلبياً على مستوى الوعي عند الأطفال وتكسبهم أنماطاً من السلبية واللامبالاة وفقد الإحساس بالزمن وعدم الحاجة أو الرغبة في ممارسة أيّة أنشطة عقلية أو حركية ومهارية، ومع تراكم هذه الإحساسات ينمو لدى الطفل الشعور بالبلادة والبطء الاستجابي والانفعالي إلى الدّاخل حيث تنمّي المشاهدة المكثفة للبرامج هذه المشاعر والأحاسيس.

 ومن حديث الأطفال إلى حديث الكبار، ننتقل لمناقشة كيفية تعامل الآباء مع هؤلاء الأبناء حتى يسيطروا على التأثيرات المدمرة نفسياً وصحياً من هذه الفضائيات التي لا تحصى. فالأساس في المسألة هو التربية التي يقوم بها الأهل تجاه أبنائهم، ولكن للأسف، فالملاحظ هذه الأيام أن هناك حالة تشبه الفوضى والتسيب من قبل بعض الآباء والأمهات بالذات تجاه أطفالهم، فنجد بعض الأمهات يهملن مراعاة متطلبات كل سن من الجرعات الإعلامية نوعاً وكمّاً، وفي الوقت نفسه لا يقمن بدورهن على أكمل وجه في التوجيه وغرس القيم الدينية والمبادىء الأخلاقية التي تربينا عليها جميعاً، والنتيجة للأسف أن محصلة بعض هؤلاء الأطفال تكون صفراً من القيم.


ويطالب المتخصصون في الطب النفسي الآباء، بضرورة توخي الحذر في عدد الساعات التي يتركون فيها أبناءهم أمام هذه الأجهزة والفضائيات، التي باتت تخترق كل البيوت حتى غرف نوم الأطفال، وعلى الآباء أن يسلطوا أمام أبنائهم الضوء على نماذج أخرى شهيرة وناجحة كقدوة صالحة يقلدونها. 
مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger