0
خذلنا العيد هذا العام، جاء مفجوعاً قبل ان يأتي حتى، لم يكن احد يتوقع هذه المأساة قبل ايام من قدوم عيد الفطر السعيد. لم تكن قرى الجنوب تتحضر لاستقبال اهاليها محمولة على الاكتاف، لم تكن منطقة عينطورة المتنية تدري ان الموت سيغدر برجالها، لم يكن احد ينتظر سماع هذا الخبر المأسوي بسقوط الطائرة الجزائرية التي فُقد الاتصال بها في اجواء مالي، وهي تحمل على متنها 20 لبنانياً كانوا يتوقون لقضاء العطلة الصيفية في لبنان. مكتوب علينا ان نبكي مجددا على مغتربينا، مكتوب على اللبناني ان يكون ضحية في كل مصيبة وكأنه "ظلم" يأبى ان يرحل عنا حتى في الاغتراب

توجهت الطائرة الجزائرية من بوركينا فاسو الى الجزائر، لم يكن هناك شيء يدعو للريبة والشك، كان كل شيء طبيعيا حتى اعنلت الطائرة اضطرارها لتغيير اتجاهها اثر حدوث عاصفة على خط مسارها، بين العاصمة البوركينية واغادوغو والعاصمة الجزائرية. مرّت 50 دقيقة قبل ان يُفقد الاتصال بالطائرة، 50 دقيقة كان تحمل احلام ركابها 116 الذين تعددت جنسياتهم دون ان يميز الموت بينهم.
تضاربت المعلومات حول مصير الطائرة، فرضيتان يعيش على اهوائها الاهالي، الاولى تؤكد احتمال وجود عمل ارهابي، في حين ان الفرضية الاخرى الاقرب الى الواقع تشير الى تحطم الطائرة بسبب عطل تقني او سوء الاحوال الجوية. لم يكن سهلا على اهالي الضحايا ان يتقبلوا حتمية الموت، كانوا متمسكين بالفرضية الاولى واملهم ان يكون عمل ارهابي قضى بخطف الطائرة، ما يعني انهم على قيد الحياة. لكن كل هذه الآمال انثرت لحظة اكد مسؤول رسمي في بوركينا فاسو العثور على حطام الطائرة الجزائرية في مالي. اعلان قضى على كل احلامنا في نجاة الركاب، لم يعد هناك اي مؤشر يبشر بالخير، وقع الموت كان أقوى والفاجعة ضربت بيوتنا اللبنانية من الجنوب الى المتن.
تعيش قرى الجنوب فاجعتها بصدمة لا توصف، وحدها الدموع تتكلم في مثل هذه المواقف. معظم اللبنانيين المتواجدين على متن الطائرة الجزائرية من الجنوب، كان من المفروض ان تطأ اقدامهم تراب القرية التي يعشقونها رغم الغربة القاتلة لكن الموت غدرهم...وغدرنا. يجهش الجنوب في بكائه، كانت المأساة قاسية على اهله، لم تكن قرى الجنوب تتصور يوماً ان تستقبل اولادها المغتربين محمولين على الاكتاف، يذرفون دموع الوداع وليس فرحة اللقاء.
فاجعة الغربة
رندة بسما (زوجة فايز ضاهر) وأولادها علي وصلاح وشيماء، منجي حسن وزوجته نجوى زيات وأولادهما، وهم محمد رضا وحسين وحسن ورقية، محمد فيصل أخضر، فادي رستم، عمر بلان، جوزيف الحاج، بلال دهيني وزوجته من الجنسية الألمانية وبرفقتهما أربعة أولاد... هي اسماء اللبنانيين الذين كانوا على متن الطائرة، اسماء كانت على لائحة المسافرين العائدين الى لبنان لقضاء العطلة الصيفية والاحتفال بالفطر السعيد في ربوع الوطن لكن الطقس خذلهم او عطلا تقنيا شاء ان يُنهي حياتهم باكرا وباكراً جدا. يقول ابو محمد وهو عمّ محمد فيصل خضر اننا" نعيش على اهواء الاخبار التي نسمعها من وسائل الاعلام، نعيش على امل ان يكون هناك ناجون لكن كل المؤشرات تؤكد تحطم الطائرة. محمد ابن 22 عاماً كان ينتظر بفارغ الصبر للقدوم الى لبنان، اراد ان يقضي شهرا بين احضان اهله واقاربه، هو الذي ولد وعاش في افريقيا لكنه لم ينس بلده الام، كان يأتي دوماً الى لبنان".
يصعب على ابو خضر ان يصدق هول ما جرى ، يصعب عليه ان يعترف بينه وبين نفسه ان محمد لن يعود ولن يدخل من ذاك الباب. يبكي بحرقة لا تضاهيها حرقة، "محمد مات، معقول يكون مات"؟ يتساءل، يستسلم ثم يقاوم، تختلط عليه المشاعر. اهل محمد يبكون بصوت مفجوع ولدهم، بكاؤهم خرق السماعة، وحده صوت ابو محمد كسر هذا الصمت بالقول" اتصلنا بنا عند 4 فجرا ليقول لنا ان الطائرة ستقلع بعد قليل وانه قادم الينا". هذه كانت آخر كلمات محمد اخضر قبل ان يُبعده الموت عنا، وما اقسى الكلمات عندما تكون آخر ما يقوله احباؤنا.
عائلات غدرها الموت
اما بلال دهيني ابن عم محمد دهيني المتزوج من اجنبية ولديه 4 اولاد فيقول في حديث الى "صدى البلد" ان" المصيبة كانت كبيرة وقاسية علينا، ما زلنا غير مصدقين لما جرى. كان محمد متحمسا للمجيء الى لبنان مع عائلته، قال لنا انا جايي عيّد معكم لكنه لم يأتِ...سبقه الموت. يعيش محمد منذ سنوات في افريقيا لكنه لم ينس لبنان ابدا بل يزوره كل سنة او اكثر. قيل لنا ان هناك عطلا تقنيا ادى الى سقوط الطائرة بعد ان اخضعت لصيانة منذ فترة قبل حلول العيد، حتى ارسل لنا صورة عن الطائرة فعرفنا انها الطائرة التي اقلت محمد وعائلته. القرية تعيش مأساة حقيقة ليس سهلا عليها ان تدفن 6 اشخاص ، ليس سهلا ان تستقبل الموت عوض ان تستقبل الحياة. كل القرى الجنوبية تعيش حزنا لا يضاهيه حزن، فاجعة الطائرة قضت على احلام العيد".
عمر بلان المتزوج منذ 3 سنوات كُتب عليه ايضا ان يكون على هذه الطائرة. يرفض اقرباؤه الاعتراف بأنه توفي وان الطائرة تحطمت. تتمسك العائلة بفرضية خطف الطائرة واعتباره عملا ارهابيا سيما ان "اجري اتصال معه ورد عليهم احد قائلا "hello" لكن يبدو انه لم يكن يسمعنا. لكننا سرعان ما فقدنا الاتصال. وحده الاتصال اعاد الامل الى قلوب محبيه، كما ان تضارب المعلومات حول مصير الطائرة جعلهم يتمسكون بأمل وحيد" عمر ما زال على قيد الحياة". كل المصادر في بوركينا فاسو لم تؤكد رسميا تحطم الطائرة، ونأمل ان تكون الطائرة مخطوفة عوض ان تكون قد تحطمت. عمر من مواليد 1975 ويملك مطعما هناك، متزوج من ماريان عودة من غسطا لكنهما لم يرزقا بعد أطفالا.
جرح عينطورة
ما يعيشه الجنوب وغسطا تعيشه ايضا منطقة عينطورة المتنية حيث قضى كل من فادي رستم وجوزيف الحاج على متن الطائرة. كانت عائلتاهما قد سبقتاهما الى لبنان في انتظار ان يوافيهما كل من فادي وجوزيف. لكن القدر خذلهما وفرّق بين العائلة الواحدة. يؤكد رئيس بلدية عينطورة جورج الحاج ان"القرية تغرق في حزن شديد غير مصدقة ما جرى، يصعب على اهلها استيعاب فاجعة الغياب بهذا الشكل. عينطورة تبكي رجالها، كان من المفروض ان يأتيا لقضاء العطلة الصيفية، هما اللذان يتوقان الى المجيء الى لبنان كل ما سنحت لهما الفرصة. لكن هذه المرة كُتب عليهما ان يكونا محمولين على الاكتاف. يعمل فادي رستم في المواد الغذائية في حين يعمل جوزيف الحاج كمتعهد. قضيا اكثر من 25 سنة في الغربة لكنهما كانا ينزلان الى لبنان مع عائلتيهما كل سنة تقريبا. "لا يخفي الحاج امله كما امل العينطوريين ان تكون الطائرة مخطوفة لكنه سرعان ما تأكدوا سقوطها بسبب سوء الاحوال الجوية. هكذا قيل لهم، وهذا ما جعلهم يبكون دماً على رحيل احبائهم".
هكذا قضى الموت على احلام العيد وتمنياته، هكذا كُتب على اللبناني ان يكون ضحية من ضحايا المأساة العالمية، هكذا كُتب على لبنان ان يبكي عيدا جاء متشحا بالسواد. ألا يكفينا جرح غزة ونزيف الموصل حتى يأتي تحطم الطائرة الجزائرية ليزيد جراحنا جرحا داخليا لن يندمل.
ليلي جرجس - موقع التيار 

إرسال تعليق Blogger