وأنا أضع هذا العنوان كان يدور في ذهني تلك الأسطورة
التي تروي اكتشاف أوراق الشّاي بالصّين، حيث بالصّدفة المحضة كما يدّعي الصّينيون،
وبعد أن كان الإمبراطور "شين نونج" يغلي الماء لقضاء بعض حاجاته، وكان
يذكّي النّار بأغصان رقيقة، تطايرت بعض أوراقها الجافّة وسقطت بالماء الحار، وبعد
استعمال الماء لاحظ الإمبراطور إنّه صار له طعما لذيذا ورائحة زكيّة، ولم تكن تلك
الأوراق سوى أوراق الشّاي،وأوراق الشّاي الصّينية هذه،
تمثّل في حدّ ذاتها هويّة،
لأنّها أضافت عنصرا ذو خصوصية إلى هويّة
الثّقافة ـ بالمفهوم الأنثربولوجي ـ
الصّينية، فهل أوراق الرّبيع العربية حملت شيئا من عناصر هذه الهويّة ذات
القيمة المضافة، بما يفتح الوجود العربي على مصراعيه على باب الأمل؟
هل ما زلنا نعيش تداعيات مفهوم التّرويع، الذي تبنّته
آلة الدّمار الأمريكية في هجمتها الحضارية على العراق، حيث يتطلّب التّرويع، ضرب
الخصم وتكثيف القصف والحصار لإفقاده الأمل ومن ثم استسلامه؟
التّرويع أصبح مسكن الخوف الذي يستقرّ في زواياه العربي
المسكين، حيث فقدان الأمل شلّ كل إمكانياته على تبصّر الحقائق ومن ثم استبيان طريق
الخلاص، وجاءت هموم الرّبيع العربي لتضيف انكسارا آخرا في مناطق اليباس العربي،
متمثّلا في انكسار الحلم الوحدوي وتجلّيات المشروع القومي، اللذان أصبحا من الموبقات
بمجرّد ذكرهما.
التّرويع الذي يكسّر الأمل، هو ذاك الذّي أفقد المبادرات
العربيّة على هزالها وشحّها البيّن من الأمل في تفعيل آلية التوافق، بما يجعل سؤال
الوضع العربي المُعسكر في انتفاضاته قائما من ناحية خفض سقف المشاحنات وترتيب
مفاعيل التّوافق، طبعا وفقا لتفاهمات تضمن الحق في المحاسبة والمتابعة القانونية
وإبعاد من تلوّثت أيديهم بدماء من خرجوا فقط ليطالبوا بحقّهم في الكرامة والعدالة والعيش
الكريم.
التّخوين بين رؤية القضية والرّؤية القومية:
يبدو أنّ المأساة العربيّة، وأعني بها ما يجري حاليا بعد
أحداث الرّبيع العربي، من حيث ما نلحظه خلال مجريات السياسة العربية، لم يتغير
فيها شيء. فهل تغيّرت السيّاسة المصرية مثلا المكبّلة بقرارات اتفاقية السّلام
اتجاه العدو الصهيوني في مرحلة ما بعد الثّورة، لأنّ حقيقة، العدوان الصهيوني
الأخير على سوريا يضع علامات استفهام حول جوهر العملية التّغييرية التي من المفروض
إنّها جذرية وتضع النّقاط على حروف العديد من القضايا العربية العالقة، لكن في
الوقت الذي كان من المفروض أن يكون هناك موقفا حازما وحاسما وموحّدا لمواجهة
الاستفزاز الإسرائيلي، راحت الأطراف تفكّر بعيدا عن مواقف العقل العملي
البراغماتي، الذي يضع المصلحة بمفهومها الفلسفي والعملي محل الصّدارة لترتيب
التكتيك التّقني الذي يتعامل مع الطّوارئ، بدلا من هذا قلت راحت الأطراف تتعامل
بمنطق التّخوين، حيث أشارت الجهة العربية المناصرة للقومية العربية إلى الصّمت
العربي إزاء هذه الضّربة التي جاءت في كيان الموقف العربي، وهي ضربة ليست لنظام الأسد
بقدر ما هي صعقة أصابت الدّولة في سوريا، والتي من مكوّناتها الشّعب والجغرافية،
بينما راح المناصرون للقضية ينصبون سرادق الفرح والشّماتة في نظام أقل ما يقال عنه
إنّه متعصّب وطائفي، إضافة إلى دمويته التي جاءت على الإنسان السّوري البسيط
والمسالم، وبهذا ذبلت أوراق الرّبيع العربي بين رؤيتين تختلفان حول القومية
والقضية، اللذان يشكلان عصبا لجسد واحد.
الأنثى والرّبيع العربي المأمول:
في بعض الحالات يبدو لي أنّ أوراق الرّبيع العربي
السّلمي والمزهر، المختلف طبعا عن الرّبيع الدّموي الحاصل، في سوريا وقبله ليبيا
واليمن، أجادت في صنعها الفعالية الأنثوية بمفهوم أشدّ إيجابية، تسنّمت حقيقته "هايدي
إبشتاين" والرّاحلتين "راشيل كوري" و"سناء محيدلي".
هؤلاء النّسوة كنّ أكثر وعيا بالقضيّة العربيّة وخصوصا
في شقّها المستلب المتعلق بالاحتلال، فهايدي ابشتاين المناضلة الحقوقية الأمريكية
من أصل يهودي وناجية من المحرقة، وذات الخمس وثمانون عاما، تسير في مسيرة احتجاجية
ـ "الحرّية لغزّة"ـ ضد استمرار
الحصار على غزّة، ولعلّ عامل السن والإنتماء يشكلان ملمحا إنسانيا، وفي ذات الوقت
اهتماما وافيا وصادقا لما تؤمن به هذه المناضلة رغم اختلاف العرق والقناعة
السياسية والثقافية. أما المناضلة راشيل كوري، النّاشطة الأمريكية في حركة التّضامن
العالمية والتي قضت في 2003 دفاعا عن الأرض الفلسطينية والبيوت التي كانت معرّضة
للهدم من قبل جرّافة القمع والدّمار الإسرائيلية، حيث تصدّت لها بجسدها، فدهستها
وعبّرت بذلك عن لا إنسانية ووحشية المسعى الصّهيوني في سبيل احتلال الأرض وإستنبات
هويّة من فراغ، بينما اتّشح الجسد الأنثوي مدويا في سماء الصّمت العربي، داحضا
أطروحة اللذّة ومبشّرا بالرّؤية الاستشهادية في سبيل ترقية الجسد من مجرّد كيان
مادّي إلى كينونة عارفة تمتثل للجمالية الوجودية بمقوّماتها الحركية داخل التّاريخ
والواقع.
فالرّبيع العربي مفهوم تُزهر أغصانه فروعا خضراء، متى
لامست الوجود تحرّكت فيه وانتشرت وتركت أثرا يجمع ولا يفرّق، فإبشتاين وكوري رغم
اختلافهما البائن في العقيدة والقومية والجغرافية، إلا أنّهما استطاعتا أن تشكلا
عامل جَمْعٍ للشّمل العربي في شقّه الموجّه نحو الغطرسة الصّهيونية، ولعلّهما
أعادتا ملحمة الشّهيدة سناء محيدلي عروس الجنوب اللّبناني، وأوّل استشهادية في
تاريخ هذه العمليات، فالسنّ المتقدّم لهايدي ابشتاين، يمثل حكمةُ لمِّ الشّمل والتّعاون
في منطقة الحدّ الأدنى المتّفق عليه، بينما موت محيدلي وكوري يمثل العنصر الحيوي
الذي يشير إلى رمزية الإجماع الإنساني حول الحرّية، المبدأ الأشدّ وضوحا ومطلبية
في الوجودية الإنسانية، وفي ذات الوقت لا يعتبر هدرا للطاقة بقدر ما يمثل نبعا
لسقي شجرة أوراق الرّبيع العربي المأمول.
العبث بالمصير العربي وسياسة اللاّسياسة:
يشتبك الوضع العربي ويزداد مأساوية إلى الحدّ الذي تصبح
فيه القضية عبثا لا يؤخذ فيه بالمنطق الإستراتيجي ولا التّكتيكي الذي يحرّك الأهداف
الإنسانية التي تكشف عن مدى تبنّي البشر لقضاياهم المصيرية، ومن هذه المحاولات
العبثية تَزَامن زيارة الرّئيس الفلسطيني محمود عبّاس إلى الصّين مع زيارة
نتانياهو، والتّي من الوجهة السياسية تعتبر لا غبار عليها، لكنّها تقرأ سياسيا ضمن
الحراك العام الذي يحكم الوضع الإقليمي وحسابات القوى الكبرى في الحفاظ على
مصالحها، فنتانياهو يمثّل قوّة الدّولة الصّهيونية المغتصِبة للحق والأرض، من حيث
المصالح التي يحملها كورقة للتّفاوض مع الجانب الصّيني، وهو، أي نتانياهو، على علم
بمدى الثِّقل السياسي والإقتصادي والعلمي والعسكري الذي يمثله في مواجهة العملاق
الصّيني ونهوضه التنّينيّ (التنّين)، بينما حسابات الجانب الفلسطيني تنحصر في مجرّد
الاستجداء والإستعطاف، وحتى على المستوى الإستراتيجي/الرّؤيوي، فالصّين تمثل الدّاعم
للعنف السلطوي العربي المتمثل في همجية النّظام السّوري، وأيضا هي تبحث أوّلا
وأخيرا عن مصلحتها، ولها كل الحق في ذلك، فأيّ منفعة سوف تطولها من السيّد عبّاس أبو
مازن مقارنة بالاغتناء المصلحي الذي يمثله الطرف الإسرائيلي، وبالتّالي يصبح التّعامل
مع الصّين عنصر من عناصر ذبول أوراق الرّبيع العربي الذي راح يتصرّف، كما هو باد
في اعتمالات المسرح السياسي العربي ضد القضية العربيّة برمّتها، ولعلّ اختلاف
الموقف من العدوان الإسرائيلي على سوريا يمثل أحد المؤشّرات الخطيرة على ارتباك
الموقف العربي الوجودي برمّته، فسواء كانت هذه الضّربة لجسّ النّبض العسكري السّوري
بعدما قويت شوكة الجيش الحرّ والخوف من احتمالات تقدّمه في منطقة الجولان، أو
اختبار المدى الأقصى الذي يمكن أن يؤثّر في التّشردم السّوري، على أساس التوحّد في
مواجهة الخطر الإسرائيلي، أو أيضا يمكن أن تكون هذه الضّربة إملاء أمريكيا للطّرف
الإسرائيلي حتى يستعاد التّعاطف المفقود في الشّارع العربي اتجاه النّظام السّوري،
ومن ثمَّ تسهل عملية الحوار بين الأطراف المتنازعة التي تراود التحرّكات
الماراطونية بين الأمريكان والرّوس، والتي توَّجها الإتّفاق الأخير بين لافروف
وكيري، والذّي أثنى عليه الإبراهيمي !!! ولا يهمّ
بعد ذلك وجود الأسد من عدمه، بقدر ما تحاول سياسات القوى الكبرى الحفاظ على النّظام
الذي يحفظ مصالحها.
الغازات السامّة والطائفية وأسلحة الدّمار الشامل:
تمثّل ورقة الغازات السامّة، المؤشّر الحيوي بالنّسبة للأمريكان
والسّياسات الغربية على العموم، من حيث سهولة إدانة الجميع، والتّساوي بين الضحية
والجلاد، فمنطقيا، وكما لا يمكن السّكوت عن المجازر التي يرتكبها النّظام السوري
وذلك بالاحتكام إلى القانون الدّولي الإنساني، ومن هذا الباب، أي المعنى في
"الإنساني"، يمكن الوصول إلى إدانة المعارضة التي تعتبر الطّرف الضحية،
ولكن حينما يضاف على الطّبخة المؤامراتية عنصر سلاح الدّمار الشّامل، تكون الإدانة
قويّة وسريعة من حيث اتّخاذ الإجراءات الدّولية اللازمة في مثل هذه القضايا الحسّاسة
التي تمسّ بمستقبل السّلام والأمن العالميين، حيث التدخّل لحماية المدنيين من عنف
السّلطة والمعارضة، وهو ما يمكّن القوّة الأمريكية من استكمال بسط هيمنتها على
المنطقة، وتحقيق فكرة الشّرق الأوسط الجديد، وإتمام مشروعها التّقسيمي، وإحالة
الجغرافيا السياسية العربية إلى دويلات أمراء الطوائف لكن بنكهة عصرية، ولعلّ
انشغال الرّبيع العربي في تشكيل أعمدة الأنظمة الجديدة التي يبدو إنّها سوف تكون
أبدية، أو الظاهر إنّها تشتغل لكي تكون كذلك، وبالتّالي يموت الحلم في رؤية
ميكانزم التّداول السّلمي على السلطة، و ما يشكّل عاملا حاسما، في ذبول أوراق الرّبيع
العربي السلمي والمنشود.
وغير بعيد عن هذا العامل الخارجي، يتأسّس موقف حزب الله
في القضية السّورية كمؤشّر نزقي في دعم المصلحة والإنتصار للأنانية الثورية
والمطلب الطّائفي، حيث يعلم حسن نصر الله علم اليقين أنّه مع زوال النّظام السوري،
سوف لن تقوم له قائمة في دمشق، والتّي تمثل الدّرع الواقي والعسكري للمقاومة في
الجنوب وللحزب بصورة عامّة، بل والأكثر من ذلك التحكّم في مفاصل السياسة اللبنانية
من خلال أكذوبة الممانعة التي كانت قائمة على تنويم أحلام العرب في تذويب حلقة
الوصل بين الكيان الإسرائيلي وأطماعه التوسّعية في المنطقة، وبالتّالي يكون جيش المقاومة، والذّي قام بأعمال بطولية ضد
التواجد العسكري الصهيوني في جنوب لبنان لا يمكن نكرانها، لكن في نفس الوقت لا
يمكن القبول منطقيا بتأسّسه كدولة داخل الدّولة، وابتزازه المستمر للدّولة
اللبنانية ضمن خيارات منطق القوّة الذي يحكمه أوّلا في علاقاته مع إيران وسوريا
ضمن محور الممانعة، الذي تكشفّت هلاميته في انفجار الأزمة السّورية، وبالتّالي
تبقى الورقة الشّيعية عاملا مهمّا في استراتيجية الرّبيع العربي وأوراقه القابلة
للذّبول تحت ظهور مناخات غير صحّية وفجائية، تضرّ بطبيعة معطيات إيكولوجيا السّياسة
العربية الجديدة، القائمة على حسابات العشيرة والإيديولوجيا والأنانية المفرطة في
ترتيب ميكانزمات التّمكين، وهذا ينطبق على كافّة الأطراف سلطة ومعارضة، ولعله يمكن
ربط تأثير الغازات السامّة بمفعول الطائفية في تمكين الأطراف الخارجية من الإمساك
بخيوط الوضع العربي، على أساس أن ملف أسلحة الدّمار الشامل الذي يتوسّع مفهومه
ليشمل الطّائفية المقيتة، يصبح ملفّا حيويا وفعّالا في تكييف العديد من القضايا
وفق معطيات راهنية، يثيرها الطرف الدّولي ذو المصلحة المفترضة ـ وخصوصا أنّ حزب
الله تعدّه أمريكا على قائمة المنظّمات الإرهابية ـ كي يبيد بها أوراق الأمل العربي في استنبات
الرّبيع الذي لا تسقيه دماء "خريف الغضب".
عبد الحفيظ بن جلولي.
إرسال تعليق Blogger Facebook