0
في غَمْرة الحوادث التي عرفتها المنطقة العربية خلال العقود الأربعة الماضية، لم تكف أجهزة الإعلام العربية -بمختلف مشاربها: من تمثِّل السلطات الرسمية، وتلك الناطقة بأسماء القوى المعارضة- عن إرجاع نسبة عالية من تلك الأحداث إلى "خديعة" تعرَّض لها هذا البلد العربي أو ذاك، أو مُؤامرة نُسجت ضده من قبل بعض القوى الأجنبية.
ولو بدأنا بالغزو "الصدَّامي" للكويت، فسنجد أنَّ "صدَّام" -كما روَّجت بعض أجهزة الإعلام العربية حينها- كان ضحيَّة خُدعة أمريكية عندما أوهمته المسؤولة الأمريكية بأن بلادها لن تقف ضد أية محاولة عراقية لـ"غزو الكويت". وكان نتيجة ذلك أن سيَّر صدام جحافل جيشه -الذي كان لتوه خارجا من حرب استنزفت قواه ضد إيران- ودفع العراق ضريبة باهظة ثمنا لـ"انخداع" صدام بالوعود الأمريكية. وكما شاهد العالم لاحقا، لم يقف الأمر عند إجلاء القوات العراقية من الكويت، بل استمرت حالة "الانخداع" حتى أطيح بنظام صدام.
ثمَّ كانت الخديعة الأمريكية الأخرى للعرب في العراق أيضا، كما يرويها أحمد الجلبي في كتابه "سهام الليل"، عندما اكتشف هو الآخر أنه كان ضحية "اتفاق بين طهران وواشنطن"، أخرجه من دائرة الفعل السياسي في الساحة العراقية، وألقت به "صفر اليدين"، بخلاف الوعود التي سبق وأن أعطيت له من الطرفين" إيران والولايات المتحدة.
وننتقل من العراق إلى فلسطين المحتلَّة؛ حيث ترى بعض الدوائر الإعلامية العربية أنَّ الغزو الصهيوني الأخير لغزة لا يعدو كونه خديعة، بل "فخ للفلسطينيين سقط البعض فيه ونأى عنه البعض بداعي الحذر. والذين اندفعوا -أو سقطوا في الفخ- رأوا بأن ما حدث قد حدث وأصبح مجرد أمر واقع لا مهرب منه، أم أن هؤلاء يرون في العدوان الشاروني علىغزة، والذي لا مبرر له على الإطلاق، أنه كان مكيدة، وأن أبسط الرد عليها هو إعلان موقف جديد يحفظ ماء الوجه ويُبقي على الكرامة مُصانة بعض الشيء".
تكرَّر الأمر -وفي صيغة مختلفة- في مصر؛ حيث قزَّمت بعض وسائل الإعلام العربية ممَّا جرى في ميدان التحرير، وانتشر في باقي المدن المصرية فوصفته بأنه لا يعدو كونه "خديعة" أمريكية أريد من خلالها إيصال جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر. وعندما حاول "الإخوان" -بعد وصول الرئيس المخلوع محمد مرسي- إلى السلطة، وفقا لتك المصادر، حاولوا أن يتجاوزا حدود الدائرة التي رسمتها لهم الدوائر الأمريكية، حينها لم تتردد هذه الأخيرة في نسج -كما تردد في وسائل إعلام عربية عريقة- من إعادة رسم دوائر تحالفاتهم مع المؤسسة العسكرية المصرية، فذهب الإخوان "ضحية هذا التحالف الجديد"، الذي "خدعوا" به.
... القائمة طويلة، ويمكن أن تعود بنا إلى مطلع القرن العشرين؛ كي نحط رحالنا عند معاهدة سايكس-بيكو الشهيرة التي كان العرب فيها ضحية مخدوعة لمؤامرة حاكتها ضدهم الدوائر الغربية، وعلى وجه الخصوص البريطانية والفرنسية منها، وكانت نتائجها حالة التقسيم العربية التي ما زلنا "ضحاياها"، ونعاني من تداعياتها.
ولا شكَّ أنَّ القوى الدولية لا تكف عن حياكة الدسائس التي تحافظ على مصالحها في المنطقة، كي تحقق أهدافها الأساسية؛ وهي: حفظ أمن العدو الصهيوني، وضمان تدفق النفط بالكميات المطلوبة وبالأسعار غير المرهقة للاقتصاد الغربي، واحتكار صفقات التسليح وتجديد اتفاقياتها. لكن رغم ما تنطوي عليه تلك السياسات من منافاة للأعراف والقوانين التي تنظم العلاقات الدولية؛ فمن الصعب إرغام مطابخ تلك الدول على التوقف عنها، أو إقناعها بالكف عن ممارساتها. وعليه فالحري بالدول العربية أن تعيد "هندسة" بناء مؤسساتها كي يكون في وسعها أن تكتشف مثل تلك المؤامرات في أوانها، ويكون في وسعها درء أخطارها عن الدول العربية كي لا تتحول إلى إحدى ضحاياها.
ولا يُمكن للعرب أن يصلوا إلى هذه الحالة الراقية من حماية الذات ضد تلك الخداع، أسوة بأمم أخرى أصغر مساحة، وأقل تعدادا للسكان، وأقل من ناحية الموارد الطبيعية، طالما استمروا في الاستعانة بآليات إدارة الحكم المغرقة في بداوتها، رافضين -بوعي أو بدون- مغادرة تلك المواقع القبلية المتخلفة، كي يتسنى لهم الانتساب إلى المجتمعات المدنية الراقية المتحضرة.
وأول الخطوات الصحيحة على طريق التحول، التي ينبغي أن يدرك جميع العرب أنها لا بد أن تكون طويلة ومحفوفة بالمخاطر، هو بدء العمل لإرساء مقومات المجتمع المدني الذي لا يستطيع الاستغناء عن المؤسسات التي تدير أوضاعه. وبخلاف ما قد يتوهَّمه البعض؛ فمن الخطأ أن يقتصر هذا التحول على المؤسسات الأمنية بما فيها العسكرية. فمثل هذا التحول يضفي قشرة خادعة لا تفي بالغرض المنشود، الذي بوسعه أن ينتقل بالعرب من خانة "الأمة المخدوعة"، المغلوبة على أمرها، إلى تلك الظافرة الممسكة بمقاليد الحكم فوق أراضيها.
فقيام دولة المؤسسات شرطٌ أولي يسبق أي خطوة أخرى. فبناء مثل تلك الدولة، يحقق ما تعجز عنه تلك الملايين التي تنفق اليوم تحت مسمَّيات مُختلفة، لكنها في جوهرها ليست سوى إجراءات احترازية هشة غير قادرة على تحصين الدولة ضد أي مخطط يقود إلى "خديعة" تلك الدولة، والنصب على مؤسَّسات صُنع القرار فيها.
ولا يُمكن لدولة المؤسسات هذه أن تقوم على ركائز سليمة ما لم تتوافر لها بنية أساسية تعليمية راسخة قادرة على التعامل المبدع الخلاق مع تلك المؤسسات وتحقيق الأداء الأفضل لها الذي يحول العرب من "أمة مخدوعة" إلى دول متحضرة تحمي حدودها، وتدافع عن نفسها، وتساهم في صيانة حاضرها ودرء الأخطار عن المستقبل الذي ينتظرها.
عبيدلي العبيدلي / موقع الرؤية

إرسال تعليق Blogger