0
أدلي اللواء  " عاموس يادلين " الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الاسرائيلية " أمان "  بتصريحات خطيرة تمس المنطقة العربية منذ ايام   خلال مراسم تسليم مهامه  للجنرال " أفيف كوخاني " ، جاء فيها ( لقد انجزنا عملا عظيما للغاية  في السودان , نظمنا خط ايصال السلاح للقوي الانفصالية في جنوبه ودربنا العديد منها  ، وقمنا اكثر من مرة  بأعمال لوجستية لمساعدتهم  ، ونشرنا هناك في الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة  علي الاستمرار بالعمل الي مالا نهاية  ، ونشرف حاليا علي تنظيم " الحركة الشعبية " هناك  ، وشكلنا لهم جهازا امنيا استخباراتيا " 

وهذا التصريح للواء عاموس  ينطبق عليه المثل " صدقك وهو كذوب "  ، فقد تم نشر العديد من الوثائق والدراسات التي تؤكد ذلك  من قبل ، ولعل ابرزها كان الكتاب  الذي اصدره مركز ديان  لأبحاث الشرق الاوسط وافريقيا والتابع لجامعة تل ابيب حول " اسرائيل وحركة تحرير السودان " الذي كتبه ضابط الموساد السابق العميد متقاعد " موشي فرجي " والذي اوضح فيه استراتيجية اسرائيل تجاه السودان والتي تتلخص في السياسة التي اسمتها  ( شد الاطراف ثم بترها ) علي حد تعبيرهم  ، بمعني مد الجسور مع الاقليات  وجذبها خارج النطاق الوطني  ثم تشجيعها علي الانفصال ، وهذا هو المقصود بالبتر لإضعاف العالم العربي  وتفتيته  وتهديد مصالحه في الوقت ذاته ، وفي اطار تلك الاستراتيجية قامت عناصر الموساد  بفتح خطوط اتصال مع تلك الاقليات والتي في المقدمة منها الاكراد  في  العراق  والموارنة في لبنان  والجنوبيين في السودان  ، وكانت جبهة السودان هي الاهم  لأسباب عدة في مقدمتها انها تمثل ظهيرا وعمقا استراتيجيا  لمصر  اكبر دولة عربية , وطبقا لعقيدة العسكرية الاسرائيلية  فإنها تمثل العدو الاول والاخطر لها في المنطقة  ، ولذلك فان التركيز عليها كان قويا للغاية .
كتاب العميد " فرجي "  شرح بتفصيل مدهش ما فعلته اسرائيل لكي تحقق مرادها في اضعاف مصر  وتهديدها من الظهر وكيف انها انتشرت في قلب افريقيا (في الفترة من عام 56 الي عام 77  حيث اقامت علاقات مع 33 دولة افريقية ) لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه  وكيف انتقت من زعماء الحركة الانفصالية  واختارت " جون جارنج " فأعدته وساندته لكي يتحدى حكومة الخرطوم  ويفرض نفسه عليها , ويدهش المرء حين يقرأ ان اسرائيل قررت احتواء افريقيا  والانتشار في قلبها  للاقتراب من السودان والاحاطة به  لكي تتمكن من النفاذ الي جنوبه  ، وقد اشار المؤلف الي ان هذا المخطط بدأ تنفيذه في اواخر الخمسينات واوائل الستينيات  اما مهندس العملية كلها فهو " اروي لوبراني "  مستشار بن جوريون للشئون العربية ، وهو الذي قال بوضوح لابد من رصد وملاحظة كل ما يجري في السودان  ذلك القطر الذي يشكل عمقا استراتيجيا لمصر بالإضافة لسواحله المترامية علي البحر الاحمر  ، وهو ما يوفر للسودان موقعا استراتيجيا متميزا ، لذلك فمن الضروري العمل علي ايجاد ركائز إما حول السودان أو في داخله ، ولأجل ذلك فان دعم حركات التمرد والانفصال في جنوبه يغدو مهما لأمن اسرائيل .
لقد بدأت الاتصالات مع الجنوبيين من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا ، وكانت الشركات الإسرائيلية التي أنشأت في أثيوبيا هي الواجهة التي استخدمت تلك الاتصالات ، وكان " أشير ناتان " رجل الموساد  النشط الذي أصبح يدير شركة " أنكودا " هو أول من قام بالاتصال بالزعماء الجنوبيين ، وبعد الدراسة لأوضاع الجنوب وقع الاختيار على قبيلة " الدينكا " أقوى قبائل المنطقة لكي تكون الباب الذي تتسلل منه إسرائيل إلى الجنوب وتتغلغل في شرايينه ، أما الذي قام بالدور البارز في توسيع نطاق الاتصالات وتوثيقها فقد كان " دافيد كيمحي " رجل المهمات الخاصة في الموساد الذي عُين مديرًا عاما لوزارة الخارجية الإسرائيلية ، ويمكن القول أن دعم إسرائيل للحركة الانفصالية في الجنوب السوداني قد مر بخمس مراحل هي :
المرحلة الأولى : طوال عقد الخمسينيات ركزت إسرائيل على أمرين :
الاول : تقديم المساعدات الإنسانية للجنوبيين والأدوية والمواد الغذائية والأطباء .
والثاني : استثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم وتعميق هوة الصراع بين الجنوبيين والشماليين .
المرحلة الثانية : في الستينيات حدث ما يلي : بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية تتدفق على جنوب السودان عبر الأراضي الأوغندية ، وكانت أول صفقة عام 1962م ومعظمها من الأسلحة الروسية الخفيفة التي غنمتها إسرائيل من مصر في عدوان 56 ، بالإضافة إلى الرشاش الإسرائيلي عوزي ، وقد اتسع نطاق تدريب الميليشيات الجنوبية في كل من أوغندا وأثيوبيا وكينيا ، وكانت أثيوبيا أكبر قاعدة لإيصال الأسلحة والذخائر إلى جنوب السودان ، كما اتسع نطاق تزويد الجنوبيين بالسلاح من الدول المجاورة ، وحينما تولى " أوري لوبراني " مهندس عملية التطوير والاختراق منصب سفير إسرائيل في أوغندا ثم في أثيوبيا ، تطور ذلك الدعم إلى حد أن بعض ضباط القوات الإسرائيلية الخاصة كانوا ينتقلون لتدريب الانفصاليين في مناطق جنوب السودان .
المرحلة الثالثة : والتي تمتد من منتصف الستينيات حتى السبعينيات ، وفيها استمر تدفق الأسلحة من خلال وسيط إسرائيلي اسمه " جابي شفيق " كان يعمل لحساب الموساد ، وبعض هذه الأسلحة كانت روسية استولت عليها إسرائيل في حرب 1967 ، وقامت طائرات شحن بإسقاطها على المعسكر الرئيسي للانفصاليين في ( أورنج كي بول ) ، كما قامت إسرائيل بإنشاء مدرسة لضباط المشاة لتخريج الكوادر العسكرية لقيادة فصائل التمرد ، وكانت عناصر إسرائيلية تشترك بالفعل في بعض المعارك مقدمة خبرتها للجنوبيين .
المرحلة الرابعة : التي امتدت من أواخر السبعينيات وطول عقد الثمانينيات وفيها جرى استئناف دعم التمرد المسلح بزعامة العقيد جون جارانج ابتداء من عام 1983م ، وكان الموقف قد هدأ نسبيًا بعد اتفاق لصالحه عام 72 ، والذي مُنح فيه الجنوب حكمًا ذاتيًا ، وفي تلك الفترة ظهر النفط في جنوب السوادان مما عزز دعم الجهات الأجنبية للحركة الانفصالية كما ألقت إسرائيل بثقل قوى ، إلى جانب " جون جارانج " ، فزودته بأسلحة متقدمة ودربت عشرة من طياريه على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب ، ووفرت له صورًا عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية ، بل إن إسرائيل أوفدت بعض خبرائها لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين مما أدى إلى احتلال ثلاث مدن في الجنوب عام 1990 وهي ( مامبيووانداراوطمبوه ) .
المرحلة الخامسة : والتي بدأت في أواخر عام 1990 ، واستمرت حتى الآن وتعد مرحلة قطف الثمرة بعد نضجها ، أو البتر بعد الشد إذا استخدمنا مصطلحات إسرائيل ، وفيها وصل الدعم الإسرائيلي لجيش تحرير السودان وقائده " جون جارانج " ذروته ، وأصبحت كينيا هي جسر الاتصال بين الطرفين بدلا من أثيوبيا ، وقد أغرقت خلالها إسرائيل ( جيش التحرير ) بالأموال والسلاح لتعزيز موقف الحركة التفاوضي مع حكومة الشمال حتى أصبح ندًا عنيدًا لها ، بل وأقوى منها عسكرياً الأمر الذي أوصل الحركة إلى نقطة مخيرة فيها بين الانفصال أو الذهاب إلى أبعد وفرض شروطها على حكومة الخرطوم ، وقد نجحت في تحقيق الخيار الثاني بحيث مدت نفوذها من جوبا عاصمة الجنوب إلى الخرطوم عاصمة البلد كله .
لقد كانت إسرائيل تدفع مرتبات قادة وضباط جيش ( تحرير السودان ) وقدرت مجلة ( معرجون ) العسكرية أن مجموع ما قدمته إسرائيل لجيش تحرير  السودان 500 مليون دولار ، قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه .
إن إسرائيل هي التي أقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناه ( جونجلي ) الذي تضمن حفر قناة في منطقة أعالي النيل لنقل المياه إلى مجرى جديد بين جونجليوملكال لتخزين 5 مليارات متر مكعب من المياه سنويا ، والمفترض أن يسهم المشروع في انعاش منطقة الشمال والاقتصاد المصري ، وقالت إسرائيل للجنوبيين إنهم أولى بتلك المياه التي سينتفع بها غيرهم .
ثم إنها ادعت أن هناك خطة لإرسال 6 ملايين فلاح مصري إلى الجنوب ( كما حدث في العراق ) لتغيير تركيبته السكانية لمصلحة كفة العرب والمسلمين ، وبمجرد ظهور  النفط في الجنوب أوفدت إسرائيل في  النصف الأول من الثمانينيات واحدًا من أكبر خبرائها هو البروفسور ( إيليناهولونفسكي ) لدراسة احتمالاته التي قدرها بسبعة مليارات برميل ، ونتيجة لذلك شرع الجنوبيون في المطالبة بحصتهم من هذه الثروة وعارضوا إنشاء مصفاة للنفط في منطقة كوستي بإحدى الولايات الشمالية ، وبعدما أحكم " جون جارانج " سيطرته على الجنوب استعد لإعلان الانفصال وإقامة دولته المستقلة ، وأبلغ الولايات المتحدة وإسرائيل والدول المجاورة للسودان بذلك ، بل إنه طالب واشنطن رسميا التدخل إلى جانبه إذا ما هاجمه جيش السودان ، ثم بعد الاتفاق مع الشمال أصبح " جون جارانج " نائبًا لرئيس الجمهورية ، وصارت حركته جزءًا من النظام الحاكم في الخرطوم واقفة بالباب الجنوبي لمصر .
وتقول الدراسات إن " جارانج " بدأ يميل إلى الوحدة مع الشمال ، مما دعا بإسرائيل إلى التخلص منه عن طريق تحطيم الطائرة التي كانت تحمله .

 لقد ذكر موقع دبكا debka أن أجهزة المخابرات في كل من أمريكا وإسرائيل وفرنسا تبذل جهودها من أجل تفكيك السودان لأربعة ولايات مستقلة وإسقاط النظام السوداني الذي يرونه أنه نظام إسلامي متطرف وهذه الولايات هي :
·         ولاية السودان الإسلامية وسط وشمال السودان .
·         ولاية دارفور في الغرب .
·         ولاية البجا في الشرق .
·         ولاية جنوب السودان المسيحية التي سيخضع لحكمها جنوب السودان حيث مناطق النفط الغنية ومصادر مياه النيل الأزرق .
يقول " فرجي " في كتابه : " إن دور إسرائيل في انفصال الجنوب وتحويل جيشه إلى جيش نظامي سيكون رئيسيًا وكبير ، ويكاد يكون تكوينه وتدريبه وإعداده صناعه إسرائيلية كاملة ، ولن يكون قاصرًا على مناطق  الجنوب بل سيمتد إلى جميع أرجاء السودان ليحقق الحلم الاستراتيجي الإسرائيلي في تطويق مصر ونزع مصادر الخطر المستقبلي ضدنا " .
ولقد ذكرت صحيفة الحياة السودانية أن إسرائيل اتجهت إلى غرب السودان بعد نجاح مشروع جنوب السودان ، وإن وفدًا يهوديا من أصل أمريكي رفيع المستوى زار العاصمة البريطانية وعقد لقاءات مطولة مع قادة الحركات المتمردة في دارفور وبصفة خاصة حركة العدل والمساواة .
وهكذا يتضح لكل ذي عينين أصابع إسرائيل ليس وراء فصل الجنوب فحسب بل وراء تقسيم السودان كله وتفتيته .
ايمن محمد احمد عيد

باحث ماجستير جامعة بني سويف

إرسال تعليق Blogger