0
كنت قد أملت أنّ البشير سيأتينا ملقيًا على عيني الوطن قميص الشفاء، وأنّه سيكون كما حصل مع أم موسى " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها " ولكن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، ومع أنّ جلالة السلطان ظل مسافرا، ولم يتصدر صفوف المصلين في العيد؛ إلا أنه ظل موجودًا في القلوب، حاضرًا في النفوس مكتوب اسمه في كفوف الداعين. ليست هذه المرة الأولى التي يسافر فيها جلالته عموما، وربما سافر قبل ذلك لإجراء الفحوصات والاطمئنان على وضعه الصحي، كما عادتنا جميعا حين يلزم الأمر؛ ولكنها المرة الأولى التي يعلن فيها ديوان البلاط السلطاني عن ذلك، وهو ما كان محل قلق و دعاء وسؤال متكرر من الجميع، متى يعود من قاد الوطن قرابة نصف قرن في غاية الحكمة والهدوء؟ وما أخبار صحته التي كانت بُذلةً للوطن؟ غير أنّ هذا يمثل جانبا واحدا فقط مما كان، وهو وإن كان الأبرز؛ غير أنّ إعلان البلاط السلطاني نفسه قد جمع الأبناء كلهم على مائدة الأب، وقيم الأب، وأخلاق الأب؛ ليبرز مجددا التفرد العماني الذي تشرّب التسامح، والتعايش واليد الواحدة.
إن أجمل ما كشفه غياب السلطان هو الروح العمانية الواحدة التي أعلنت عن نفسها، وهذا "المتعدد الواحد" الذي لن تجده في مكان كما تجده في عمان، فهم مع تعدد مذاهبهم عمانيون، ومع اختلاف توجهاتهم الفكرية عمانيون، ومع سخطهم أو رضاهم عن شأن وطني ما عمانيون، فالوطن لا يعلو عليه شيء. نعم قد نختلف في تقييم موقف سياسي، أو نختلف في الموافقة أو الرفض لقرار داخلي أو إقليمي أو دولي؛ غير أننا لا نختلف أبدا في أننا لن نمس هذا الأمان الذي يلف الوطن كله، سماءه وأرضه و بنيه، وأننا لسنا على استعداد أن نخسر هذه الخصوصية العمانية الفريدة من نوعها التي حفظت مكانة البلاد بين الأمم والتي استطاعت بكل حنكة أن تُخرج الوطن نقيا خالصا من براثن النزاعات والدماء التي يغرق فيها العالم من حولنا.
لم يكد يخلو مجلس أو تجمع خلال الفترةالماضية من الحديث عن ذلك مصحوبًا بالدعاء والابتهال لجلالته بالشفاء، وكأن الشهور الأخيرة جمعت من الحب والدعاء ما لم تفعله السنون السابقة، وهو دأب الأزمات أن يحيط فيها الإخوة بالإخوة؛ حتى تنفرج، وسيكون انفراجها عندنا بوفاء النذور حين يرجع سلطان القلوب معافى سالما إن شاء الله تعالى.
إلا أن الأهم هنا هو أن نوغل في العمق أكثر حين نتكلم عن الوحدة الوطنية التي ننعم بها، والأخوة الإيمانية التي نقطف طيب ثمارها حين نفكر ونخطط، وحين ننفذ ونبدع، ثم حين نتنقل ونتحاور، إننا مطمئنون دائما وفي كل أحوالنا أنّ إنجازاتنا لن تهدمها جريمة الطائفية في غسق الليل، مهما كان أبناء الوطن متباينون في ميولهم وتوجهاتهم نحو مدرسة فكرية أو أخرى، وهو أمر نحتاج أن نتحدث عنه بوضوح أكبر كي نتجاوز بعض الحساسيات الداخلية التي لازالت تستثير بين الحين والآخر بعض الشكوك والظنون والتي قد تنغص صفاء البعض وهو ما لا نريده أن يكون. قد اقرأ لميكافيللي، وأؤمن بكل أفكاره، وقد أتبنى في حياتي الشخصية بعض مبادئه وأعتمد سلوكًا يتناسب مع قيمه التي يرفضها المجتمع الذي أعيش فيه، غير أنّ الوطن عندي خط أحمر وأنّ الأمن والحرية الذَين وفرهما لي الوطن هو ما كان سببا في أن أعلن عن توجهي الفكري والعَقَدي ولكي أحفظ لنفسي هذه الحياة الحرة الآمنة فالمعادلة تقتضي أن أقطع أقدام ميكافيللي وجنوده لو فكروا الاعتداء على وطني!! تلك هي الموازنة الصحيحة التي يجب أن يعقلها كل مواطن على أرضنا الحبيبة. إن اختلاف العالم وخلافه، وهذه الحروب الضارية الظاهرة منها والباطنة، لابد وأن لها علينا أثرا كباقي دول المنطقة، ومؤكد أنّها ستوجد وجهات نظر متعددة تميل لكفة أو أخرى، وبلاشك فإن عقائدنا وأفكارنا قد تجرنا لميل دون آخر، وهو حق لنا، ولكنه حق الله في أعناقنا وحق الوطن في شرايينا أن نفديه بالروح وحق شريكنا في الوطن أن يطمئن تمامًا أننا مع كل ذلك نفدي الوطن، ومن جانب آخر فهو حقنا المؤكد أيضا أنّ يُحسن الظن بنا كأوفياء للوطن مهما كانت آراؤنا حول القضايا الإقليمية والدولية من حولنا؛ إذ أنّ ذلك ديدن البشرية فيما يمر بنا من حوادث وأيام. وخطير جدا هذا الشك الذي يعترينا أحيانًا تجاه بعضنا بعضا، إنّه خطر على قلوبنا البيضاء التي جعلتنا عمانيين دائمًا متماسكين في السراء والضراء، كما إنّها خطر على مائدة الأب السلطان التي جمعتنا على أساس المواطنة الصالحة والرحمة والتواد، لم يكن بناء الوطن سهلا في المراحل الأولى، ولم يشهد جيل اليوم الجهد الذي بُذل للحفاظ على ثقافة التسامح التي توارثناها من أجدادٍ كرام، و لا يظننّ أحدٌ أن أحداث الثمانينيات و ما نشب فيها من حروب و ما كان فيها من صراع حول الهيمنة من الغرب والشرق، لا يظننّ أحدٌ أنّ ذلك لم يكن له انعكاسات على الداخل العماني وعلى شعور الأفراد، غير أننا تجاوزناه بفضل رعاية المولى جل وعلا التي سخرت لنا قائدا حكيما، استطاع أن يصرف اهتمام الشعب إلى التفكير في بناء الوطن ووضع قواعد استقراره من جميع الجوانب، وأن يجنبه قلق الشك والظن. إننا بحاجة اليوم إلى استذكار ذلك والعمل على حفظ ثقافة الحب والثقة والتسامح لتستمر عمان كما ورثناها عن آبائنا، بلدة طيبة، وشعب أصيل، إنّ االشكوك مدعاة الظن وهي لواقح الفتن التي تظل نائمة ولا خير فيها لو قامت، وعمان تريدها ميتة فلنئدها؛ فمن يفقد ثقافة يفقد تاريخا أيها الأحبة، ونحن لسنا على استعداد لذلك أبدا على أرضنا؛ لذا فلنحسن الظنون، ولنقطع أسباب الفتن، ولنعلم أنّ الله تعالى خلق الأرض ليعمِّرها الإنسان، وطالما عمُرت في مكان فهو محل رضا الله و رحمته، وعمان إن شاء الله من تلك المحال، كما أنّ مائدة الأب السلطان التي عمرها بالجهد والحكمة والحب تستحق منا بذل الجهد لاستمرار كرمها وجودها وهو خير جزاء له بل هو حقه علينا. وجدير بنا كعمانين أن نظل دومًا ذاكرين مقولة جلالة السلطان - حفظه الله و رعاه - في التطرف:" إنّ التطرف مهما كانت مسمياته والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، و لا تقبل أبدا أن تُلقى فيها بذورالفرقة والشقاق". إنها مقولة حكيمة بعيدة النظر تعبّر حقا عن حضارة وثقافة ومحتد إنساني تليد، فلنظل على العهد باقين، وللوعد منجزين، ولتظل عمان واحة الأمان، ودوحة الحب والسلام دومًا إن شاء الله تعالى وسنظل يا مولاي ننتظر البشير ليزهر بمقدمك الوطن والقلوب. والدعاء من نظم الوالد العزيز الحاج مصطفى بن مختار اللواتي حيث يقول :
ياإلهي إبق قابوس لنا وحد الشعب به والوطنا
و قه شر العدا والفتنا إبقه رمزا لأبناء الوطن
سلمي اللواتية / عن  الرؤية

إرسال تعليق Blogger