0
الأحداث الدامية التي شهدتها شوارع مدينة فيرغسون في ولاية ميزوري الأميركية تحولت إلى ما يشبه ساحة حرب، من جراء المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين، ومقتل الشاب الأسود على يد شرطي أبيض في مدينة فيرغسن الأمريكية لا يزال يثير جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة لجهة تطبيق القانون والتمييز بين الأمريكيين البيض والأفارقة.



والواقع أن ما جرى ولا يزال في ولاية ميزوري الأمريكية من أعمال عنف وشغب كان سببه عنصري بامتياز، ولا تزال رواياته متعددة، وإن كانت القصة تدور حول قيام ضابط بوليس أمريكي أبيض بإطلاق الرصاص على شاب أسود أعزل ''مايكل'' وقتله بشكل متعمد، ومما زاد من تفاقم الوضع في الولاية، التي تقطنها أغلبية من السود، وقوع حادث مشابه آخر، حيث أطلق مجهولون النار بشكل عشوائي على المارة في أحد شوارع مدينة ''نيواورلينز'' ما أدى إلى مقتل وإصابة سبعة أشخاص.

 ونتيجة لذلك فالأمن والسلم الأهليان قد تهددا بقوة في الأيام الماضية في مدينة ''فيرغسون'' وفي بقية الولاية، ومنها انطلقت شرارة الأزمة، التي كشفت عن وجود نيران العنصرية كامنة تحت الرماد.


هذه الأحداث، تميط اللثام بوضوح عن الوجه الحقيقي للديمقراطية الأمريكية، والذي لم تفلح كل مساحيق التجميل في جعله مقبولاً. ومهما تكن الأسباب الكامنة وراء المظاهرات الشعبية الواسعة، والتي نتج عنها أحداث عنفٍ مؤلمة ومؤسفة على الصعيد الإنساني، فإن الثابت الوحيد في هذه المسألة، هو ترهل النظام الأمريكي، هذا النظام الغريب العجيب، القائم على سياسة التكاذب والنفاق، هذه السياسة التي أودت بجلال ''الوقار الديمقراطي'' الذي حرص النظام الأمريكي على تظهيره كهويةٍ مميزة، وبالمقابل طمس أي صورة مغايرة، والعمل على رسم صورة ''مخملية'' لا تمت للواقع بصلة.

 لقد تشكلت الولايات المتحدة الأمريكية في بدايتها من عناصر أنجلوساكسونية كان الغالب عليها هو العرق البريطاني الأبيض، شنت هذه العناصر حملة إبادة شاملة ضد سكان القارة الأصليين من الهنود الحمر، وفي الوقت الذي كان فيه المقاتلون الأنجلوساكسون يتنافسون على من يقتل أكثر من الهنود الحمر، كان أقرانهم من التجار والبحارة يجوبون شواطئ أفريقيا لاختطاف اكبر عدد من الرجال السود الأشداء، وهكذا فإن الولايات المتحدة قامت أساساً على إبادة السكان الأصليين لإفساح المجال أمام المستوطنين الجدد من ناحية، وجلب أكبر عدد من الأفارقة وتحويلهم إلى عبيد لتعمير القارة الجديدة من ناحية أخرى، أي إن الإمبراطورية الأمريكية ارتوت من منبعين دماء الهنود الحمر وعرق الأفارقة.

 وقد ترسّخت خلال التاريخ الأمريكي خمسة ثوابت هي: (عقيدة الاختيار الإلهي، التفوق العرقي والثقافي، الدور الخلاصي للعالم، قَدرية التوسع اللانهائي، وحق التضحية بالآخر). ولذلك، فقد أباد البيض في مستعمراتهم الجديدة نحو 5.18 ملايين هندي دون أن يرف لهم جفن أو يعانوا من أي وخز للضمير.

وفي الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تصدر مواثيق حقوق الإنسان مركزة على مفاهيم أكثر رقياً للحرية الفردية من مجرد حق العمل والمساواة والمعتقد، كان أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة حتى عام 1955 لا يستطيعون الجلوس في الباصات العامة، وكانت القوانين تقضي بعدم جلوس الزنوج في الباصات التي تقّل البيض. وكانت قائمة المطالب التي رفعها السود عام 1955 في مدينة مونتغمري الجنوبية مجرد السماح لهم بالجلوس في الباصات العامة ولو بالجلوس في المؤخرة، وأن يعاملوا بتهذيب ولياقة كمعاملة البيض.

 والشاهد اليوم، أنّ ما تشهده المدن الأمريكية من فترة لأخرى، هو بمثابة نسخة طبق الأصل عن جولة حدثت في أواخر الستينيات في عهد الرئيس ليندون جونسون، وانفجار الغضب الأسود بعد أن قام البيض بتحقيرهم وإذلالهم، مما اضطر الرئيس الأمريكي لأن  يدفع بالجيش الفيدرالي إلى الشوارع ''لضبط الأوضاع'' في ديترويت وشيكاغو ونيويورك، ومدن متعددة أخرى، وكانت الخسائر المادية بمليارات الدولارات إلى جانب عشرات القتلى والجرحى والمفقودين.


ورغم تبجح الإدارات الأميركية بالحرية والدفاع عن حقوق الإنسان فإن المجتمع الأمريكي لا يزال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة و مشاكل عديدة على رأسها العنصرية. وعلى الرغم من أنّ الدستور الأميركي يمنع التفرقة بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو غير ذلك إلا أنّ العنصرية مغروسة في قلب معظم الأميركيين.‏


ومما لا شك فيه أن العنصرية قائمة حتى الساعة حتى في قلب واشنطن من الناحية السكانية والتوزيع الديموغرافي، وعلى غير المصدق أن يذهب إلى العاصمة الأمريكية ليجدها منقسمة بشكل غير عادي رغم أن ثلثي سكانها من الأمريكيين الأفارقة، ذلك إن حديقة ''روك كريك'' تشطر واشنطن شطرين من الشمال إلى الجنوب، ففي  الشمال من العاصمة 90 في المائة من البيض، وفي الجنوب 90 في المائة من السود، وهذا أمر يستتبعه مستوى خدمات إما متميز عند البيض، أو متدنٍ عند السود، وحتى العام 1964 كانت صكوك الملكية العقارية في شمال غرب واشنطن تتضمن تعهداً يمنع بيع ذلك العقار إلى أمريكي من أصل إفريقي، كما يقول الدكتور جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأمريكي في واشنطن.

 ومما لاشكّ فيه، أنّ حديث الأرقام يقودنا إلى القطع بوجود إشكالية حقيقة اليوم في الولايات المتحدة، فقد اعترف تقرير صادر عن مكتب التحقيقات الاتحادية FBI عام 2009 بتزايد وقوع جرائم الكراهية في أمريكا ، ووصل الرقم إلى 5 آلاف جريمة، و542 ضحية، وذكر التقرير أن هناك نسبة 72.6 في المائة من الجرائم التي ارتكبت بدافع الكراهية لعرق ما كانت ضد السود بالمجتمع.


التقرير نفسه يثبت وجود تفاوت كبير في الدخل بين السكان البيض والسود، ففي حين كان متوسط الدخل السنوي للأسر الأمريكية البيضاء يبلغ نحو 49 ألف دولار، كان متوسط دخل الأسر الأمريكية من ذوي الأصول الإفريقية يبلغ نحو 30 ألف دولار، وفي حين يبلغ عدد سكان أمريكا السود 13 في المائة من تعداد الأمريكيين فإن 12.7 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر.


على أنه مهما يكن من أمر، ما جرى في ''فيرجسون” من أعمال عنف، فإن السؤال الأهم والأخطر: هل فشلت السياسيات الأمريكية عامة، وسياسات ''باراك أوباما'' بخاصة في توحيد الشعب الأمريكي؟ وهل لا تزال نار العنصرية مشتعلة في النفوس الأمريكية بعد نحو خمسة عقود من الاعتراف بالأمريكيين من أصول إفريقية كمواطنين كاملي الأهلية في ستينيات القرن المنصرم؟

يبدو ومن الأسف أن العنصرية لا تزال ضاربة جذورها هناك، وأن هناك من الدلائل ما يؤشر إلى ذلك بقوة.

وفي هذا السياق، فقد أكد المحلل السياسي الإفريقي والكاتب المتخصص في الدراسات الإفريقية ''ابيومي ازيكوي'' أنّ العنصرية لا تزال تنخر المجتمع الأميركي عندما وصف النظام القانوني في الولايات المتحدة بأنه مؤسسة قائمة على التمييز العرقي حيث يتم استهداف الأميركيين من أصل إفريقي بشكل مباشر و معاقبتهم بطريقة أكثر عدوانية و قسوة من الأميركيين البيض.


و قال ''ازيكوي'' أنه ''يتم تمثيل الأميركيين من أصل إفريقي بشكل غير مناسب في السجون وغيرها من مرافق العدالة الجنائية الإصلاحية، ''مضيفاً'' أنّ الأرقام تظهر مدى عمق العنصرية والاضطهاد القومي الموجود في إطار النظام القانوني في الولايات المتحدة''


كلام ''ازيكوي'' هذا لم يأت من فراغ، و إنما هو حقيقة تؤكدها الممارسات العنصرية التي تمارس ضد السود بالدرجة الأولى ثم العرب و المسلمين و أخيراً المهاجرين من مختلف دول العالم، حيث يمارس الأميركيون البيض التمييز العنصري ضد هؤلاء جميعاً رغم أن القوانين الأميركية تحرم مثل هذه الممارسات البغيضة، ورغم أنّ العالم ينكر مثل هذه العنصرية ونجاحه في القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ''الأبارتيد''خير مثال على رفض المجتمع الدولي للعنصرية في العصر الحديث هذا المجتمع الذي بقي عاجزاً عن طي ملفها في فلسطين المحتلة و أخيراً في الولايات المتحدة.

إذن. هكذا تمارس أميركا العنصرية بحق مواطنيها قبل غيرهم في الوقت الذي تتشدق فيه بالدفاع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الديكتاتورية فكيف سيصدقها العالم، وهي تمارسها اليوم في أبشع صورها ضد مواطنيها السود، و ارتباطاً بذلك نستطيع اليوم تفسير مواقف أميركا من كل موقف أممي يحارب العنصرية في العالم، ما يلخص مفارقة كبيرة في ما تدعيه الولايات المتحدة من حرصها على الحرية و الديمقراطية ومناهضة كل أشكال التمييز العنصري من جهة وما تمارسه على أرض الواقع من نفاق سياسي وازدواجية في التعامل مع هذه القضايا من جهة أخرى.‏
بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger