0
من التناقضات الغريبة التي فرضت نفسها على سلوكيات كثير من الشعوب العربية والإسلامية خلال شهر رمضان المبارك، تحوّل هذا الشهر الكريم من شهر صوم وعبادة وطاعة إلى موسم سنوي للإسراف وإهدار نعم الله سبحانه وتعالى، وهو ما يتناقض مع مقاصد الصوم وأهدافه السامية.

 والغريب أنّ ظاهرة الإسراف لا ترتبط بحياة الشعوب العربية الإسلامية ذات الدخل المرتفع، بل هي ظاهرة عامة تشمل الدول الإسلامية جميعها، بل إنّ بعض الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية، تنفق على مستلزمات رمضان من أطعمة ومشروبات ومهرجانات فنية أضعاف ما تنفقه في الشهور الأخرى. فما أسباب تضاعف الاستهلاك الذي يصيبنا في شهر رمضان؟ وما تأثير ذلك على ميزانية الأسرة؟ وكيف نواجه هذا الإسراف؟
 تشير دراسة ميدانية أجرتها إحدى المؤسسات الاقتصادية، عن الإنفاق الاستهلاكي العربي في رمضان أنّه يتراوح  ما بين 26 ـ 29 مليار دولار غالبيتها يتم إنفاقها في الأطعمة وسلع كمالية ورحلات خارجية، وجاءت المملكة العربية السعودية في مقدمة الدول العربية حيث تتجاوز إنفاقاتها خمسة مليارات، وتليها مصر، حيث يتجاوز إنفاقها الثلاثة مليارات، وتلتهم الأغذية بأنواعها المختلفة أكثر من 50 في المائة من دخل الأسرة العربية في رمضان، في حين تلتهم إعادة تأثيث المنزل 20 في المائة، والضيافة 9 في المائة والملابس 5 في المائة.
وتتوزع بقية النسبة إلى أمور تختلف من أسرة لأخرى. وتؤكد الدراسة أن المستهلكين يقعون فريسة للتجار الذين يغرقون الأسواق بالسلع المختلفة مع محاولة إغراء المستهلك بتخفيضات غالبيتها وهمية، ولا يتوقف الأمر على ذلك، وإنّما يقوم كثير من التجار ضعاف النفوس باستغلال شدة إقبال المستهلكين على الشراء ويعرضون سلعاً فاسدة وبعضها منتهية الصلاحية، وللأسف لا يضبط منها إلا القليل: لأنّه يتم تغيير تاريخ الإنتاج بطريقة أو بأخرى.
  وعن الآثار الضارة للإسراف على صحة الصائمين، تتفق الأبحاث الطبية على أنّ الإنسان العادي لا يحتاج في وجبتي الإفطار والسحور سوى 2800 سعر حراري فقط، إلا أنّه للأسف فإنّ الصائم تدخل معدته مواد غذائية لا تقل السعرات الحرارية فيها عن 4000 سعر حراري، وهذا يعني أنّ السعرات الزائدة تتحول إلى مواد ضارة ولا قيمة لها، لأنّ التهام الطعام الزائد يضر بالجسم، ويتحول الأكل من نعمة إلى نقمة، حيث تدخل الأسر في ''ماراطون'' الطعام الذي يصيب أفرادها بالخمول والكسل والتخمة وعسر الهضم، لأنّ نسبة كبيرة من الدهون تحتاج إلى تكسير وهضم يرهق الجهاز الهضمي، وبخاصة أنّ البروتينات نأكلها بشراهة ممّا يجعل المعدة الممتلئة بالطعام تتمدد وتضغط على الحجاب الحاجز الفاصل بين الجهازين الهضمي والتنفسي ويقل الفراغ المتاح للرئتين، فلا تستطيعان التمدد للتنفس كما يسبّب ضيقا في التنفس.
ويزيد الطين بلة أننا نملأ المعدة بأنواع من الطعام لا علاقة لها ببعضها، فنجد في الوجبة الواحدة كميات كبيرة من النشويات والدهنيات وكذلك السكريات والحلويات المشهورة مثل المعجنات بأنواعها...في حين تقل الخضروات والمواد سهلة الهضم، ولهذا فإنّ أسلوبنا خاطئ ويؤثر سلباً على المعدة.
وتعرض خبيرة في التغذية لجزئية هامة في القضية قائلة : ''الغذاء سلاح ذو حدين، فهو نعمة أنعم الله بها على الإنسان، حتى يستطيع أن يقوم برسالة الاستخلاف وتعمير الأرض إذا أكل باتزان وتعقل وأخذ ما يكفيه فقط، وتتحوّل هذه النعمة إلى نقمة في حالة إساءة استخدامها والإسراف فيها''.
وقد ظهر مؤخرا اتجاه عالمي لوسيلة علاجية جديدة تسمى '' العلاج بالغذاء وبلا دواء ''. وللعلم فإنّ لهذا التوجه جذور قديمة تمّ تجاهلها، فمثلا يقول الطبيب اليوناني الشهير ''أبوقراط'': '' ليكن غذاؤك دواءك، وعالجوا كل مريض بنباتات أرضه، فهي أجلب لشفائه ''.
ولكن المشكلة أنّ استهلاك الصائم يتضاعف في هذا الشهر على الرغم أنّه من المفترض أن يوفر ثلث استهلاكه في الشهور العادية، حيث إنّه في رمضان يتناول وجبتين هما الإفطار والسحور، بدلا من ثلاث وجبات في غير رمضان، فضلا عمّا بينها من استهلاك غير منتظم، ولكننا حوّلنا رمضان إلى شهر لملء المعدة بكل أنواع الطعام، ممّا تسبب في ضياع الصحة واستنزاف الموارد الاقتصادية للدولة، وهذا يعود لسوء فهمنا للأبعاد الدينية والاقتصادية لهذا الشهر الفضيل.
لهذا فمن الضروري التقليل من الطعام قدر الإمكان، حتى نحافظ على العمليات الحيوية للجسم وخلاياه، وخاصة إذا علمنا أنّ الإسراف في الأكل يؤدي لكثير من الأمراض ويعجل بالشيخوخة، ويجعل الإنسان عرضة للإصابة بأمراض القلب والأورام المختلفة والنقرش وهشاشة العظام.
ويكشف أحد الاقتصاديّين عن جانب آخر من المشكلة قائلا: ''صدق المثل الشعبي البسيط (مصائب قوم عند قوم فوائد)، فإذا كان المستهلك هو الضحية فإنّ كثيراً من المؤسسات تسعى لاستغلاله بلا رحمة، وقد دخلت البنوك وشركات الإعلانات في هذه العملية، حيث تلجأ إلى حملات إعلانية عن تقديم قروض ميسرة ليس للعاملين فيها فقط وإنّما لعامة الشعب وبفوائد تشجيعية ظاهريا ممّا يشجع الأسر على الاقتراض بمختلف الوسائل؛ لسد كل احتياجاتهم الرئيسية والكمالية ولا مانع أن يدخل فيها جانب من المظهرية''. ويضيف: ''العالم الإسلامي ليس فقيراً في موارده إلا أنّ معدلات استيراده تزداد بشكل ملحوظ في رمضان عن غيره من الشهور، لأنّ كثيرا من العادات الغذائية السيئة والإسراف يستنفذ موارد الدولة، ممّا يجعلها تلجأ للاستيراد لتلبية احتياجاتها.
إنّ المتأمل لأحوال الأسرة المسلمة في رمضان سيجد العجب العجاب، حيث يتضاعف استهلاكها في هذا الشهر عن غيره، ولهذا فهي تلجأ إلى الاقتراض، وتحميل ميزانيتها ما لا تطيق، وهو نفس وضع الدولة. ولهذا فإنّ الأسرة تعلن الطوارئ قبل رمضان بشهور، حيث تبدأ في الادّخار إذا كانت إمكاناتها الاقتصادية تسمح بذلك، حتى يستطيعوا سد احتياجاتهم التي تمثل غالبيتها العظمى كماليات تستنزف ميزانية الأسرة وتجعلها تخرج من الشهر الفضيل مدينة أكثر من أي شهر آخر، وممّا يضاعف من حدّة المشكلة في بعض البلاد العربية مثل المغرب أنّ رمضان الآن يأتي متزامنا مع موسم بداية المدارس باحتياجاتها لمبالغ فيها، ثمّ يأتي عيد الفطر الذي يشهد ضغوطا مالية إضافية، وكل هذا يصاحبه إسراف في الإنفاق العام وزيادة في الإنفاق على الطعام والشراب، فضلا عن الكثير من الأمور الترفيهية والكمالية.
إنّ كثيراً من الأسر تلجأ قبل رمضان إلى تخزين كميات كبيرة من السلع زائدة عن حاجاتها في أحيان كثيرة، وبنفس المنطق نجد التجار يلجأون إلى احتكار بعض السلع أو تخزينها وتزداد مكاسبهم المادية، وخاصة أنّ بعض الأسر المغربية تنظر إلى الأكلات الرمضانية على أنّها لا يمكن الاستغناء عنها مهما ارتفع سعرها، ليبلغ الإسراف مداه، وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنّ الفائض الغذائي الذي نتخلص منه في رمضان ـ رغم صلاحيته للاستخدام ـ بأنّه يكفي لإشباع احتياجات العديد من الدول الفقيرة، التي تتعرض لمجاعات ويموت أهلها؛ لأنّهم لا يجدون ما يحفظ لهم حياتهم.
إنّ الإعلانات تحاصر المستهلك قبل الصيام بأيام وحتى احتفالات عيد الفطر، حيث يزيد الإنفاق الإعلاني خلال هذا الشهر عن غيره من الشهور بنسبة 600 في المائة، وكلها سلع استهلاكية، ويتزامن هذا مع حصار إعلامي متمثل في المسلسلات والأفلام والبرامج والمسابقات التي تلعب بأحلام الأسرة في الثراء السريع أو الحج والعمرة، وتقوم الشركات المنظمة بالتهام جزء من دخل الأسرة من خلال الاتصالات الهاتفية، مما يزيد ديونها، في حين يحقّق المعلنون مكاسب بالمليارات بالخداع في كثير من الأحوال، وخاصة أنّ كثير من الأسر تكون أسيرة للإعلام والإعلان في رمضان، حتى وإن أدّى هذا إلى تدهور حالتها المالية.
إننا اليوم في عالم عنوانه (النهمة) من النهم، بالرغم من تقلص حجم الموارد الغذائية، وما نشهده بين الحين والآخر من ارتفاعات في أسعارها وفق بيانات منظمة الزراعة والأغذية (الفاو).
والخلاصة تكمن في قول خبير اقتصادي عربي إن البعض يصنع فقره بيده نتيجة الإسراف تحت طائلة (أن النفس وما اشتهت) فهل نصلح أنفسنا بإعادة ترشيد حاجاتنا لخفض معدل التكلفة، سؤال قد يتهمنا البعض بعدم ضرورته ولكن من الأخلاق أن لا نستكبر على الوقائع.
ويكفينا من التكلفة أيضاً أن نشير إلى ما قاله أرنولد توينبي (إن إنجازات الإنسان التكنولوجية تحولت إلى أدوات 
 لتدمير المحيط الحيوي)، أليست هذه تكلفة خطيرة!

                                               بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger