0
هل نحن متناقضون، وعلى كل لون تركب شخصياتنا؟... لنا وجه بالخفاء، ووجه آخر يعلن؟

 تنهى أم ابنتها عن الجلوس أمام التلفاز ساعات طويلة تمتد لما بعد منتصف الليل، لماذا؟، حتى تجلس هي حتّى الفجر... وتنهى أبناءها عن الكذب والخداع، في حين يرن الهاتف فتركض لمن سيرد لو كانت فلانة، فقل لها أنّي خارج البيت، وما تفتأ تنصح أبناءها بمساعدة الغير ومساعدة بعضهم، في حين أنّ شقيقتها مهددة بالإفلاس، وتتظاهر هي كذباً بأنّ رصيدها صفر، وذهبها مرهون...

 أمّا الأب، فيعتدل جالساً، ويفتل شاربيه استعداداً لجلسة المواعظ والعبر وحديث الثلاثاء ليتحدث اليوم مثلا عن مساوئ التدخين، وحقيقة أنه مضيعة للنفس والوقت والمال وأذى للآخرين أيضاً، ويشعر بالحنين فيستل علبة سجائره من جيبه أو يهيئ شيشة، لينفث حلقات الدخان عالياً...عالياً، ووقع حديث يومي أيضاً يتحلق عالياً مع الريح، ويسعل ويستأنف أنّه قدوة سيئة...

 ثمّ ذاك المدير الذي يمسح بالموظف المتأخر الأرض، ويوبخ المتلكئ بعمله، أو كثير الغياب، ثمّ يخرج من باب مكتبه الخلفي ليترك العمل والعمال، عائداً بعد أسبوع وفي نهاية الدوام... متناقضون أليس كذلك؟


إنّــــه المجتمــــع:


مجتمعنا السبب... فهو لا يتقبلنا كما نحن... ويطلب منا الكمال، مما يدفعك للكذب.

 السيدة ''ع.ك''/27 سنة: أحاول قدر المستطاع أن أبعد عن التناقض في حياتي، وأن أفعل حقاً، ما أجد نفسي قادرة على تقبله وتفهمه، وبالتالي عليّ نصح الغير به، ربما أتعود على شيء ويتوقع مني شيئاً آخر، أو ترى بنظراتهم توبيخاً ما، فتضطر لتفادي كل ذلك بأن تقول مع ما يتماشى معهم، رغم أنّك لا تتبناه في سلوك حياتك.

 الآنسة ''ش.ر''/23 سنة، موظفة: نعم أنا متناقضة أحياناً، إنها صفة ضعف بالإنسان، وتناقضي مع الحقيقة غير نابع من خوفي من نظرات المجتمع لي، أو محاولة لإرضاء الغير، أو حتى يأخذ عني الآخرون فكرة جيّدة، ويحبونني، فالحب المركب والكاذب من هذا النوع لا يلائمني، ولكني وببساطة كلّما تقدم بي العمر ولو أشهراً، أجدني مصطدمة بأشياء وأناس، أناقض ما عوّدت نفسي عليه وما تبناه عقلي، فلا أرى نفسي إلا وأنا أكذب على نفسي ربما للحظة طيش، أو للحظة غباء، أو لحظة أتجرد من إنسانيتي وأصير بلا عقل... أحاول قدر المستطاع حل التناقض بنفسي، ولكن الحياة تغتالني بكم من البشر، يخدعون براءتك، لتجد نفسك في الهاوية، وكيف باللّه لا نكون متناقضين ونحن في مجتمع لا يحترم إلا المظاهر والأقنعة والمواربة والكذب، ويكره منك الوضوح، والصراحة والطبيعة.

 إنّـــــه البيــــت:


التناقض أساسه الوالدان، فهما من يقمع رغبات أبنائهما، ليفعلا ما يحلو لهما...

 ''ح.ط'' 22 سنة/موظف: هذا التناقض موجود بكل البشر، بخاصة الأبوين، فالآباء ينصحون أبناءهم بعدم تعاطي السجائر على سبيل المثال، وهم مدمنو تدخين، وبعدم قيادة السيارة بسرعة، وهم يأتون بذات الفعلة، وأيضا يحرمونهم من السهر ليلا خارج البيت، في حين تمتد سهراتهم لساعات الفجر الأولى، والأم أيضا تنصح بناتها بالابتعاد عن الماكياج، في حين ترفض هي الخروج من البيت قبل وضع 2 أو 3 كجم من الماكياج، وفي المناسبات، تأمرها بألاّ تلبس كل ما هو قصير وعار، في حين أنّ كل ملابسها الليلية من هذا النوع، وغالباً ما يعلل الأب والأم أفعالهما تلك، بأنّهم كبار ومن حقهم التصرف كما يحلو لهم، وتنطبع بذلك هذه الفكرة بذهن الأبناء، فيعمدون لعمل الشيء نفسه، لاعتقادهم أنّها تجعلهم يبدون كبارا بأعين الناس.

 ''ز.ق'' 29 سنة/رجل أعمال: لا أعتبر نفسي متناقضاً كبيراً، فأنا لا أخجل من عيوبي، لا بل وأجهر بها على الملأ، فما هي إلا نتاج أفعالي، فلم أخجل منها؟، ولم أضع نفسي بذلك الموقف المحرج والسخيف، لأقف كمرشح للبرلمان يلقي الخطب الرنانة عن الأخلاق والإصلاح، وأفعل ولا تفعل...لا... لا... نحن بشر، والبشر خطاء، ومن منا لا يخطئ، ولا يكتنف التناقض حياته، فليرمني بحجر، ربما أنصح أحدهم، أرى نفسي أكثر خبرة منه بالحياة وأكبر منه عمراً وتجربة، ناصحاً إيّاه بصفة عامة، ولا أضع نفسي مقياساً أبداً، فما أنا إلا إنسان، قد أتبنى شعارات وأخالفها، لذا لا أحب أن أقول هذا مبدأي، كونها تتغير حسب الوضع والمزاج والزمان أيضاً.

 التناقـــض  طبيـــعي!

 للتناقض بحياتنا أحجام وأشكال، والطبيعة البشرية جبلت أساساً على التغيير الذي يحمل جوانب إيجابية لمصلحة الإنسان، فلو كان الإنسان على ذات النسق بمشاعره وأحاسيسه ثمّ تعرض لمواقف مؤلمة ومحزنة، أو لخذلان البعض له، لظلّت مصاحبة له، وانعكست على سلوكياته ونتائجه، ووجود هذه الطبيعة لا يلغي بعض القيم التي يتشرّبها الإنسان والتي لابد أن تستمر معه...

 ولو كان الأبوان قد تعودا على قول شيء والآتيان بعكسه، فطبيعي أن يزرعا التناقض في حنايا الطفل  وتصرفاته، وينضج الأطفال غير أسوياء، متناقضون بأفعالهم وأفكارهم، وشخصياتهم ضعيفة، مهزوزة، لا تصمد أمام رياح الحياة ومنغصات البشر والتناقض موجود دوما وأبدا، وفي كل المجتمعات تقريباً، فما من أحد يقدر على القول بثقة أنّها تخصنا نحن كشعب، أو أنها صفة الحياة الإنسانية ولكنها تتفاوت بين مجتمع وآخر.

 فالإنسان كما يقول علماء النفس والاجتماع مجموعة من متناقضات، وللحقيقة فحتّى العلوم الإنسانية بحد ذاتها متناقضة، وغير دقيقة بكل ما تحويه، وهي بذلك تمثل صورة الإنسان غير المستقرة، فالإنسان ينتظر من الإنسان القائد أو المرشد، أو القدوة، أن يكون فاضلا بكل خصائصه، ولكنها ليست القاعدة دوماً، كون الخطأ من طبيعة البشر، وقد قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: ''كل ابن آدم خطّاء''.

وبالرغم من سياسة الانفتاح، التي حملت معها التطور للأعمال والمؤسسات وأبرزت ظاهرة التناقض، بيد أنّ مجتمعنا ما يزال بخير ـ ولو جزئيا ـ ويتعامل مع جل الأمور بمعيار أخلاقي متمدن، نابع من موروثنا، وآدابنا، ونمط حياتنا اليومية.

 متناقضــون... افتضـــح أمرهـــم.


لابد أنّ الحياة قد أزالت عن كثيرين منا أوراق التوت التي تستر تناقضنا، ناشرة إياه على الملأ، فها هو ذا الرئيس الأمريكي السباق ''بيل كلنتون'' والذي كان متظاهراً بالمرح والحيوية وبالتمسك العائلي الذي يسرّ حياته، وبوقوفه الدائم والمتصل خلف تلك المناضد الطويلة، كي يلقي المواعظ والعبر على الطلبة والموظفين والأطفال، البيض والسود منهم، حاثاً إيّاهم على حسن الخلق، والتخلق، وتفوح رائحة فضيحته الجنسية مع متدربة البيت الأبيض اليهودية ''مونيكا لوينسكي'' لينقسم سامعي خطبه الواهية بين محب وكاره، إثر اكتشاف ريائه وتناقضه.


وذات الشيء ينطبق على الأساقفة الذين نسمع حكاياتهم بين حين وآخر، عن قتلهم فلاناً، أو اغتصابهم فلانة أو عن ذاك الطبيب الذي يتلذذ  بقتل مرضاه، أو اغتصاب مريضاته، أو حتّى سماع خطب المسؤولين من أصحاب اللحى المصبوغة سواداً ومدعي الإيمان والإمامة، والذين تشهد سفراتهم للدول الأجنبية وفواتيرهم هناك والأماكن التي يرتادونها، بمدى التناقض بين ما تتشدق به أفواههم، وبين ما يأتون به من أفعال.


الخـــوف أســـاس التنـــاقض:


هو الخوف لا محالة، الخوف من نظرة الآخرين، الخوف سعياً لإرضاء البعض، الخوف من العقاب، الخوف من العائلة والوالدين، والتنشئة العائلية غير السوية تقود الإنسان لحاله تلك، القائمة على القهر السلطوي، الناتج عنه الخوف من الجهر بالحقيقة، فينطق الواحد بما يتوقعه الناس منه، ولكنه يتصرف بالطريقة التي تعود عليها، وتعدد الثقافات وتذبذبها، يتسببان بالازدواجية الثقافية، فيصير الإنسان مطالباً بسلوك مختلف، ليتوافق مع كل جماعة يتعامل معها، وعدم اقتناعنا أيضاً ببعض العادات الموجودة واضطرارنا لممارستها أحياناً، وإلغائها في أحايين أخرى، هو الأخر مما يدفعنا لمزيد من التناقض بحياتنا.

  وللحقيقة حسبما رأيت فالمرأة أكثر تناقضاً ـ لا لغرض بنفسها ـ بل كونها وبخاصة في مجتمعنا ينتظر منها التفكير والتصرف بطريقة ما، وتربيتها القائمة على التمييز ضد جنسها، ما يسبب نوعاً من الاعوجاج والالتفاف بسلوكها، وعدم الإفصاح عن دواخلها، كونها غالباً ما يتم قمعها، والإنسان المتناقض يقع بين فكي المبادئ التي يؤمن بها ويصدقها والتصرفات التي يقوم بها والسلوك الذي يأتي به.

 والإنسان المتناقض ـ بخاصة بشكل كبير ـ هو إنسان مهزوز، مريض نفسي، غير صالح للوثوق به، أو تسليمه مسئوليات، وما من حل لكل ذلك سوى بتربية جيدة، وخالية من الكذب، والتمسك بالقول المقرون بالفعل أمام النفس قبل العائلة والآخرين.

 رأي علمــــاء النفــــس:

التناقض في علم النفس مرض اجتماعي نفسي، أسبابه غياب دور العائلة ـ الأم والأب بخاصة ـ الدور الحقيقي باعتبارها الأساس في التربية والتنشئة، والنقص في الثقافة والوعي الديني أيضاً، وعدم التوافق مع المحيط الذي يعيش الطفل أجواءه من البداية، وأسلوب التربية القائم بالأساس على التأنيب والتوبيخ والعقاب بالعنف والضرب.


ووجود الازدواجية بحياتنا اليومية ناتج عن نقص بوعينا وثقافتنا نحن، لا أبناءنا، وخطورة ذلك يحدده الموقف ومدى تأثيره على المحيطين، بالإنسان المتناقض، فلو صدر ذاك من أستاذ جامعي مثلا وأمام طلبته الذين يحترمونه، ويرجعون له في مشاكلهم الدراسية، لا بل أحياناً الخاصة، فإنّ تأثيره سيكون أكبر ونتائجه أشد خطورة...

 وضعف الوازع الديني من أهم أسباب ذاك التناقض الذي استشرى كظاهرة والجهل بكثير من الأمور الحياتية عند التعامل مع الأبناء، وكذلك هذا الانفتاح على العالم الذي أسهمت به القنوات الفضائية والاختراعات الرقمية والاتصالية والإنترنت وما سمح به من معرفة، كل ذلك جعل الإنسان يرغب بشيء ولكنه قد يأتي عكسه في العلن.

 والتفرقة بالمعاملة كونها مساهم فعال بظاهرة التناقض المستشرية، بخاصة عند المرأة، التي تضطر للجوء إلى طرق ملتوية ومزدوجة للحصول على مبتغاها، كون الطريق الصحيح، مسدود...مسدود...مسدود.


والازدواجية موجودة بتصرفاتنا غالباً، بسبب الشخصيات المتناقضة التي تسير الغالبية العظمى، مما يدفعنا لإخفاء كثير من الحقائق والاهتمام بالقشر دون البحث عن اللبّ.


إنّ المدينة الحديثة بأغلبها تقوم على النفاق الاجتماعي، وسوء التربية ينعكس على الأبناء، بالأخص الفتيات المحرومات واللّواتي يشعرن بمدى الظلم والقهر الملقى على كاهلهن، بسبب التفرقة بين جنسهن وجنس الذكور، أو لسوء المعاملة، فتجد الفتاة منغلقة على نفسها، مصابة بالكآبة، أو القلق، أو الاضطراب، ما يجعلها تندفع بحماس لإيجاد طريقة خارج البيت تنقذها من واقعها، تعوضها عن الحرمان، وخلل الشخصية يسببه عدم الاستقرار النفسي والعاطفي والمادي، وهو الذي يدفع لكمية من التناقض وفيرة.


وأخيراً وليس آخر، إنّ مصابي هذه الحالة يحاولون أن يبدو أناسا مثاليين ـ كي يغطوا تناقضهم الكبير ذاك ـ فيتصرف عكس ما يبدون عليه، ويرفضون تماماً العديد من الأمور على الملأ، ولكنهم يفعلونها في الخفاء.
تحقيق: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger