أصداء ''مهرجان'' القبة
الحديدية، صمتت هذه المرة في ظل القذائف الصاروخية التي أطلقتها المقاومة
الفلسطينية من غزة. فقبل شهور، ساعدت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
على
زرع الوهم الذي يقول: إنه وجد الحل لمشكلة القذائف الصاروخية على هيئة منظومة
القبة الحديدية التي أثبتت جدواها في حماية الجنوب.
ليس هناك حاجة ماسة إلى معلومات
استخبارية خارقة لتقييم نظام ''القبة الحديدية'' الذي تباهت به إسرائيل لفترة
طويلة، ووصفته
بأنه بلغ مستوى الكمال لاعتراض الصواريخ التي توجه إلى إسرائيل من أي جهة كانت، ولم تكن القبة ''الحديدية'' الفاشلة التي اخترقتها صواريخ
المقاومة البدائية في غزة هي الأولى ولا الأخيرة في منظومة الردع التي حاولت نسجها
في عقول المستوطنين وغرسها في قلوب الناس أجمعين، بل بدأت تسوق هذه الفكرة عندها
ادعت أن جيشها يملك أسطورة القوة التي لا تقهر، فوجدته ضعيفاً هشاً في حرب تشرين
التحريرية عندما فر أمام الجيشين السوري والمصري وذهبت دفاعاته أدراج الرياح في
بارليف وألون على جبهتي سيناء والجولان.
هنالك
وهم يعشعش في عقول قادة إسرائيل، وهو يكاد يلامس الشعب الإسرائيلي، إننا دولة عظمى
متفوقة نقود المنطقة بقدراتنا المعرفية عنها وبكفاءتنا القتالية وبحسن التدبير، وأنّ
العرب بالمقابل يخافوننا ويعلمون قبل مواجهتنا إنهم خاسرون أمامنا... تلك النظريات
الخيالية تغيرت كثيراً، لكن المؤسف أنّ الجيل الذي يحكم تلك الدويلة الإسرائيلية
المصطنعة لم يقرر بعد الخروج من دائرة الغرور ولا من مشاهد الماضي، بل هو لا
يريد
أن يتخلى عن هذين الموقعين كي لا يصدق
أنّ الدنيا تغيرت وأنّ عليه إعادة التثبت من الحقائق الجديدة التي تلف بعض المنطقة
العربية، وإنّ كتابات نتنياهو التلمودية وكتبه قد عف عليها الزمن.
استناداً
إلى ذلك، يمكن الاستنتاج بأن نجاح القبة الحديدية التي هي عبارة عن محاولة إصابة
رصاصة برصاصة أو صاروخ بصاروخ، هي مسألة في غاية الصعوبة، لكن من المرجح أن يكون
صاروخ القبة الحديدية مزوداً بصاعق اقترابي يحدد القرب من الهدف عبر موجات رادارية،
وينفجر عند الاقتراب الكافي منه ما يغني عن الإصابة المباشرة. ورغم أن الصاعق
الاقترابي قد استعمل بنجاح في الأسلحة المضادة للطائرات منذ أواخر الحرب العالمية
الثانية، إلا أن تفجير الصاروخ يطرح صعوبة إضافية لأنه ـ على عكس الطائرة ـ له
غلاف سميك من المعدن، ما يعني أن الانفجار يجب أن يكون قريباً جداً ليكون له تأثير
حقيقي.
هذا، ولفهم صعوبات اعتراض الصاروخ عبر
إصابته، لابد من النظر إلى نظام مجرب مثل نظام الدفاع عن السفن البحرية الروسي.
ففي محاولته لتفجير صاروخ قادم، يطلق هذا النظام خمسة آلاف طلقة من العيار الثقيل
في الدقيقة، مكوناً غيمة من الرصاص تفجر كل شيء تصادفه، وحتى مع ألفي طلقة تطلق
على الصاروخ، تبقى إصابته وتدميره مسألة غير مضمونة، بمعنى أن النتائج في هذا
المجال كانت غير مشجعة...
قد يكون الحكم النهائي على أنظمة كهذه
يحتاج إلى معطيات أكثر من المعطيات المتداولة، لكن هناك مصدرين يمكن الاعتماد
عليهما: التاريخ والعلم. في التاريخ القريب، هناك قصة شبيهة جداً بقصة القبة
الحديدية، وهي قصة ''حرب النجوم'' التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق ''ريغان''
عام 1983، وهي عبارة عن خطة طموح لبناء منظومة دفاع في مواجهة الصواريخ الباليستية
السوفييتية آنذاك. ورغم أن العلماء قالوا إنهم بحاجة إلى عشر سنوات فقط ليحددوا
(إمكانية الوصول) إلى هذا النظام، إلا أن الجيش الأميركي بدأ يبث مشاهد تصور ''النجاح
الباهر'' في تدمير الصواريخ.
ولم يعترف الأميركيون بعملية الخداع هذه
حتى عام 1994، حين كشفوا عن الحقيقة بعدما انهار الاتحاد السوفييتي. وقد برر
البنتاغون عملية الخداع هذه بالحاجة للتأثير في مفاوضات الحد من التسلح، وهو أمر
نجح فعلاً، وربما أكثر من المتوقع له، ففي القمة التي عقدت بين الرئيسين
(غورباتشوف وريغان) في عام 1985 طلب غورباتشوف وقف (حرب النجوم) ما أفشل القمة
بسبب رفض (ريغان) لهذا الطلب!
إذاً، حققت حرب النجوم نجاحاً دعائياً
هائلاً رغم فشلها الكامل تكنولوجياً، وتمثل ذلك النجاح بالمليارات التي صرفها
السوفييت لمواجهة هذه الحرب (الدعائية) على التسلح.
أما في العلم، فإن النقاش حول قدرة العلم
على التفسير والتنبؤ بالظواهر الفيزيائية بشكل كامل (كالتنبؤ بمسار صاروخ)، فقد
أثبتت التجارب العلمية استحالة التنبؤ بذلك، بل إن الممكن فقط، هو إيجاد أجوبة
تقريبية لأن المسألة شديدة التعقيد. وهكذا أصبحت مسألة عدم القدرة على
التوقع مرتبطة بعدم القدرة على إيجاد التساوي بين كل المتغيرات بين النظام المعروف
والنظام المرغوب في توقعه.
والآن وبالعودة إلى مثال إطلاق الرصاص،
فإن المتغيرات المؤثرة في سرعة الرصاص عديدة وأهمها: قوة حشو البارود، وبالتالي،
حتى نستطيع توقع حركة رصاصة، يجب أن تتساوى متغيرات هذه الرصاصة مع متغيرات رصاصة
سابقة تم قياسها. وهذا أمر غير ممكن لأسباب عملية ونظرية، فمن الناحية العملية،
ليس من الممكن إنتاج رصاصتين مع عدد حبات البارود نفسها، حيث تساوي كل حبة في
الشكل والمضمون والحجم والفاعلية مثيلتها في الرصاصة الثانية، ومن ثم لا يمكن أن
تتساوى السرعة بين رصاصتين.
أما على المستوى النظري، فإن التساوي هو
مسألة غير ممكنة خارج الأشكال النظرية والمجردة التي يقوم عليها علم الرياضيات
فعندما يقال إن التفاحتين متساويتان بالوزن، فإن هذا التساوي يصح فقط لأداة
القياس، فلو تم استعمال أداة أكثر دقة للقياس، فإنهما لن تبدوا متساويتين.
وعلى
عكس الشائع عن الثقة والسيطرة اللتين يوحي بهما العلم، فإن المتعمق لن يجد إلا
معضلات عجز عنها العلم. كثيرة هي الحالات مثل إصابة صاروخ بصاروخ التي تحدث على
حافة الممكن علمياً، حيث تصبح الاحتمالات والحلول التقريبية هي السائدة بدلاً من
اليقين والدقة. فالصاروخ
هو نظام معقد بالتأكيد تؤثر فيه عوامل هائلة وكثيرة ذاتية وخارجية، فمثلاً، لا
يمكن وصف الفضاء الذي يعبره الصاروخ بالمتجانس، بل هو متنوع ومتغير تعم فيه
التيارات الهوائية الحارة والغيوم.
إن إسرائيل التي نامت طويلاً على حرير
التفوق استيقظت لترى نفسها أمام أكثر من إعصار يبتلع خرافتها ''القبة الحديدية'' التي
روجت لها على مدى سنوات. وأكبر شاهد على ذلك أنه في حربها على غزة لم تستطع القبة
الحديدية التي جعلت منها الدعاية الإسرائيلية أسطورة، وصوّرتها على أنها حققت
الحماية الكاملة لإسرائيل مواطنين ومنشآت ومواقع متعددة الأنواع والأغراض، لم
تستطع أن تعترض إلا عدداً لا يتجاوز أصابع اليدين من صواريخ المقاومة الفلسطينية
التي أطلقت على إسرائيل، رغم أن عدداً كبيراً من هذه الصواريخ من صُنعٍ محلي وبدائية،
فكيف يمكن لهذه القبة أن تتصدى للصواريخ المتطورة؟
وبالتالي، فإن لهذه القبة طابعاً
دعائيّاً هوليوودياً، كما حصل لحرب النجوم التي أشرنا إليها قبل قليل، وما يجدر
ذكره ـ إضافة إلى ذلك، أنه في العالم العسكري الاستراتيجي والتكتيكي، فإن النصر أو
الهزيمة أمران يتعلقان بحالة القناعة أكثر من الواقع، ويحتل الخداع بالصورة أو
بالخبر الكاذب مكانة كبيرة، ويعتبر من طرق تحقيق النجاح.
ورغم مسارعة
الكونغرس الأميركي في 1/8/2014، إلى الموافقة على فتح الترسانة العسكرية الأمريكية
المخزونة في فلسطين المحتلة وفي قطر، لتزويد قوة الاحتلال بما قيمته 225 مليون
دولار قذائف لـ ''القبة الحديدية''، فتحت المدى لاستخلاص ما يجب من عثار سياسي في
العدوان على غزة، ولمعاينة الإخفاق المتدحرج في الهجوم الإمبريالي المنقب بالإسلام
السياسي على الوطن العربي، وبما يجدد معيارية قضية فلسطين في فرز الصحيح من الغلط
في الحياة السياسية العربية: دولها، وقواها، وخطابها.
ورغم
كل هذا الدعم الأمريكي، فنصب القبة الحديدية لم يُمكّن سكان بئر السبع وعسقلان من
أن يعيشوا حياتهم المعتادة بلا خوف، ففي الجولة السابقة اضطر نحو مليون شخص إلى
البقاء زمناً طويلا في المناطق الآمنة وتشوشت الحياة العادية ولم يقِل عدد
المصابين بالرعب.
وقد وصف الدكتور ''موتي شفلر'' الخبير في هندسة الطيران والفضاء
والحاصل على جائزة ''أمن إسرائيل'' خلال مقابلة مع محطة الراديو العبرية ''راديو
103'' القبة الحديدية بأكبر خدعة عرفتها المنطقة.
وقال الدكتور شفلر ''لا يوجد حالياً في العالم أجمع ولو صاروخاً
واحداً قادراً ويعرف كيف يعترض ويسقط صاروخاً آخر أو قذيفة صاروخية، والقبة
الحديدية لا تعدو كونها عرضاً صوتياً وضوئياً لا تعترض ولا تسقط شيئاً. الواقع فإن
كافة الانفجارات التي نشاهدها ونسمعها في الجو هي انفجارات ناتجة عن تدمير ذاتي ''صاروخ
قبة حديدية يدمر نفسه أو يعترض صاروخ آخر من نفس القبة'' ولم يتمكن ولو صاروخ واحد
أطلقته القبة الحديدة وبشكل مطلق من إصابة أي صاروخ أو قذيفة صاروخية. وأوجدت
إسرائيل أسطورة المناطق المفتوحة لاستغلالها في زيادة أعداد الصواريخ التي تدعي
اعتراضها وبالتالي رفع نسبة نجاح القبة الحديدية خلال جولة المواجهة الحالية حتى
تصل النسبة قريباً إلى أكثر من 100 في المائة''.
ويضيف ''شفلر'' أنّ الصواريخ التي يعلنون عنها كصواريخ اعتراضية
تطلقها القبة الحديدية ولا تعود ثانية للأرض، هي مجرد صواريخ افتراضية تولد وتموت
على شاشة حاسوب القبة الحديدية فقط لهذا لم نرى ولو صاروخ قبة حديدية واحد عاد إلى
الأرض''.
وأكد الخبير ''موتي شفلر'' أنّ الصواريخ التي يطلقونها تسقط وتسقط
هنا أيضاً، وشظايا وأجزاء الصواريخ التي نراها على الأرض تعود إلى صواريخ القبة
الحديدية نفسها لذلك أقول لكم نحن بكل بساطة نطلق النار على أنفسنا تحدياً في
المجال الافتراضي ''خلق حالة إطلاق نار افتراضية على شاشة الحاسوب فقط'' وتم خلق
أسطورة الصواريخ الافتراضية بهدف تعميق الأجواء الضبابية المحيطة بقصة القبة
الحديدية.
أماّ ''عوديد عميحاي'' الخبير في منظومات الليزر، ورئيس جمعية ''درع الجبهة
الداخلية''، فقد أوضح أنه أثناء العدوان أطلق على إسرائيل 3.356 صاروخاً، منها 119
سقط في قطاع غزة من أصل 3.237 صاروخاً وصل إلى ''أراضي إسرائيل''، تم اعتراض 587
حسب ما اُعلن، بمعنى أنه عملياً لم يعترض إلا نحو 18 في المائة من الصواريخ التي
وصلت إلى ''أراضي اسرائيل''. إضافة إلى ذلك، أطلق نحو مستوطنات غلاف غزة في أثناء
الحملة نحو 700 قذيفة هاون، لا يوجد ضدها اليوم دفاع. وإذا أضفنا إلى ذلك أيضاً
نحو 500 صاروخ وقذيفة هاون (بنسبة مقدرة 1:1) أطلق نحو مستوطنات غلاف غزة في الأسبوعين
ما قبل الحملة ـ تنخفض معدلات الاعتراض للصواريخ إلى نحو 15 في المائة، دون
أن نحصي قذائف الهاون، التي تشكل نحو 17 في المائة من إجمالي النار على اسرائيل''.
وتابع ''عميحاي'' أنّ
عيوب ''القبة الحديدية'' التي انكشفت في حملة ''الجرف الصلب'' كانت معروفة وحذرنا
منها مسبقا''وفي المواجهة الحالية أطلق بالمتوسط نحو 115 صاروخاً في اليوم. في
المواجهة المستقبلية، والتي حسب تقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية سيطلق فيها نحو
1.000 صاروخ في اليوم، فإن منظومات الدفاع ستنهار اقتصاديا في غضون عدة أيام، و''اسرائيل''
ستبقى عرضة للنار البالستية.
وأمام هكذا اعترافات،
فكيف يتكلمون عن دور أساسي ومتعاظم للقبة الحديدية في صد صواريخ
المقاومة الغزاوية، وأنه لولاها لكانت هناك خسائر أكبر؟! لقد كانت
مشكلة الصواريخ الفلسطينية تكمن في دقة التصويب، لأنه حسب الإسرائيليين سقط 2532
صاروخاً في أماكن فارغة من العمران، فماذا سيحدث عندما تطور المقاومة صواريخها
وتحسن التصويب؟!
ونحن ننتظر النتائج... فحين يتم تطوير القبة إلى المدى المنشود قد
تصد ما نسبته 50 بالمائة من صواريخ المقاومة غير
المطورة، لكن المقاومة سوف تطور صواريخها وتطور معها أساليب الحرب النفسية التي
نعرف نتائجها على دولة الإرهاب التي تحميها الولايات المتحدة الأميركية وتشجعها
على القتل والعدوان والإرهاب والاحتلال والاستيطان.
وبكل الأحوال، إن ''القفز فوق هذه الوقائع... يعني الانفصال عن
الواقع''، ففي الأمة ثمة من لا يزال مؤمناً بأن ''إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت'' فقبتها
الحديدية باتت مثار تندر في الإعلام ''الإسرائيلي'' وجبهتها الداخلية المستجلبة ضعيفة ولا تقوى
على الصمود... ولا شك في أن تصحيح الانحراف الديني والأخلاقي... وتنفيس الاحتقان
الحاصل على مستوى المنطقة لن يُعالج إلا بحرب كبرى وشاملة معها، والمسألة مسألة
وقت لا أكثر.
فهل
يعلن التصعيد الأخير على غزة نهاية منظومة القبة الحديدية التي باتت عبئاً على
الكيان الإسرائيلي أكثر منها حلاً أمنياً لمواجهة صواريخ المقاومة الفلسطينية؟ وهل
تعيد الحكومة الإسرائيلية النظر في جدواها في ظل المتغيرات الإقليمية الجديدة؟
بقلم: مصطفى قطبي
إرسال تعليق Blogger Facebook