قُضي الأمر، ومضى الافتراء يطفو من جديد على سطح الإعلام
المصري، ويسفر ـ بعد طول تخف مريب ـ عن وجهه المعتم الكئيب، ويزداد على مر الأيام
مكابرة، وعناداً جهولاً، وركوب كل صعب خطر من وسائل الجنوح والمروق...! نبأ من
الأنباء صغير وبسيط، يقول أنّ الإعلامي ''ابراهيم عيسى''، شطح خياله المريض وأنكر
في برنامج ''مدرسة المشاغبين''، عذاب القبر وتارك الصلاة، في الكتاب والسنة...
هذه التصريحات المريضة قابلها سخط عارم من قبل علماء
الدين سواء بمصر أو خارجها، الذين استنكروا هذه الخرجة الإعلامية.
وفي
هذا السياق قال وزير الأوقاف، الدكتور ''محمد مختار جمعة''، أنّ إنكار ثوابت العقيدة
يصب في مصلحة قوي التطرف والإرهاب، وفتح باب الشائعات والفتن، مضيفا في بيان له: ''الدين
ليس كلاماً مباحاً، إنما يجب الرجوع في قضاياه العقدية والفقهية إلي علمائه
المتخصصين''، مشيراً إلى أنّ الأمة في غنى تام عن إثارة مثل هذه القضايا الشائكة
المثيرة للجدل والمستفزة لمشاعر الخاصة والعامة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي
جمع كلمتنا معاً في دعم قضايا العمل والإنتاج وترسيخ مكارم الأخلاق.
قال ''طرفة بن العبد'' الشاعر العربي القديم:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره حتى تظل له الدماء تصبب !
وإن كنا لنود حقاً لو أن قال الشاعر ـ في مناسبتنا هذه ـ
تتمة للشطر الأول من بيته: ''حتى تظل له ـ حمرة الخجل ـ ! ـ تصبب'' !.. ولكن ما
الحيلة وشطحات أمثال ''ابراهيم عيسى'' في ضلالها وتضليلها: سوأة، وعورة، وسية في
جبين العروة الناصع، ويجب سترها عملاً بحديث نبوي شريف يقول: ''من رأى عورة لأخيه
فسترها، كان كمن أحيا موءودة ''.
إلاّ أنّ مثل تلك الصغائر، وقد تكره من أجلها النصح
والزجر دون نفع وبلا جدوى... لا يحسن أن نستنفد الأكثر النفيس من وقتنا في الأقوال
ما بين نصائح وتحذيرات... وإنّما هو ''العمل'' الواقعي، و ''الرد'' الفعلي العملي،
هو الذي يجب أن يصدر الآن عنا.
إنّ الاعتداد بالنفس بعد الاعتماد على الله قوة أي قوة...
وكلمة النصح الرفيق وإيماءة التبصرة الهادئة إن لم تجد صداها في قلوب أضلها الهوى
وعيون أعشاها البهرج والبريق... فالأجدر ـ إذن ـ والأوجب هو نفض الأيدي من شئون
هؤلاء الشاطحين وليس المجتهدين أمثال ''ابراهيم عيسى''... فليسوا في واقع الأمر ''ظاهرة
حديثة ـ لا سابقة لها ولا مثيل، وإنّما هم ''ظاهرة كل زمان ومكان''...
أولئك الفئة المتنطعة والمضللة، التي تنبت خفية في كل
روض مخضوضر شاسع، لتنأى، وتتلوى بصفرة الذبول وحدها، وتتخذ لنفسها ـ وهي أهون
''النبات'' شأناً ـ خواصاً عجيبة تنفرد بها، في طريقة ''نموها''!
ومن كانت الحربائية صفة من صفاته، فليس بمستكثر عليه حقاً
أن يركب الصعب الشائك من المطايا ليصل ـ المهم أن يصل! ـ إلى غاياته وأغراضه الدنيوية...
وأولئك هم الذين حذرنا الله منهم، فأوحى إلى نبينا ''محمد'' عليه أفضل الصلاة
وأزكى السلام، بالكثير من أفاعيلهم، فيقول سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: ''وأن
يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل، فأمكن منهم، والله عليهم حكيم''.
وإنه لفخار أن يثور علماء الإسلام وبخاصة الأزهر الشريف
ضد شطحات ''ابراهيم عيسى'' الذي تطاول على الكتاب والسنة وأنكر عذاب القبر وتارك
الصلاة. وتعليقاً علي تصريحات ''عيسي''، قال نقيب الأئمة والدعاة بمصر، الشيخ ''محمد عثمان البسطويسي'':
إن إنكار عذاب القبر إقحام صحفي في العمل
الديني، مؤكداً أن عذاب القبر موجود بالكتاب والسنة وليس لأحد أنه ينكره بعد قوله
تعالي ''النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد
العذاب''، حيث أنهم كانوا يعذبون غدوا وعشيا ثم يدخلون النار يوم القيامة.
والحال، هل يمكن أن تكون الإساءة للمسلّمات الدينية، من
باب حرية التعبير، وإذا عممنا السؤال:
هل من الوارد أن تكون إهانة المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها والسخرية منهم ثقافياً وإعلامياً هي نوع من حرية التعبير، ومنذ متى كانت
السخرية من ثوابت العقائد والمقدسات حرية رأي في وقت يقاضي فيه الأفراد العاديون
الصحف ووسائل الإعلام على ما لحق بهم من سب وقذف وسخرية؟!
الحال أصعب من السكوت عليه ولا عذر للجهل أو الصمت.
فالمسألة التي أثارها ''ابراهيم عيسى''، لا يمكن التغاضي عنها لأنها مسألة تتعلق
بالتلاعب بالمعتقدات الإسلامية تحت ذرائع ثقافية وحضارية، لماذا هذا الاتجاه نحو
التلاعب بهذه الطريقة المهينة الماسة بكل مقدس عند المسلمين؟
ما نود التأكيد عليه، أن تذرع بعض وسائل الإعلام بحرية
التعبير مردود عليه، فمن المغالطة الالتفاف والدفاع عن الإساءة التي تمثل في
الخطاب الثقافي العربي نوعاً من خطاب الكراهية، بحجة حرية التعبير عن الرأي،
فالصلة بينهما منفكة ولا يصح الاستناد إليها، لأن هناك فارقاً بين حالتين في مجال
الإساءة: أولاها التعبير عن الرأي مع الاضطرار إلى استخدام ألفاظ وكلمات جارحة أو
من شأنها أن تمس شعور البعض.
فالمقصد هنا هو التعبير عن الرأي مع عدم القدرة على تجنب
تلك الألفاظ والعبارات، لكن هناك حالة من الإساءة أنكى من ذلك وهي اختيار أسلوب
وكلمات كان في الإمكان له ألا يختارها، ومن ثم يكون اختياره ذلك الأسلوب أمراً
مقصوداً عنده، أي أنه يقصد التعبير عن الرأي بانتقاد العقيدة والإساءة والمس بشعور
المسلمين.
فالحرية المطلقة المتسببة بلا ضوابط أو قيود هي عين
الفوضى والتي تقود المجتمعات إلى الخراب والدمار، إلا أن كل المجتمعات الإنسانية
تعرف نوعاً من الحرية الراشدة التي تمكن الإنسان من العيش والتعايش والمعايشة وفق
إرادته دون أن يكون مقهوراً أو مظلوماً أو واقعاً تحت ضغط غير مشروع، فالحرية تعني
الانطلاق المشروع في الرأي والاعتقاد وفي القول والفعل.
لقد كرم الله الإنسان بالحرية لا لذاتها، ولكن بقدر ما
توصل صاحبها إلى الاهتداء والتقوى والصلاح، فإذا لم تستطع تلك الحريات أن ترتقي
بالحقيقة الإنسانية في نفس الإنسان وتكون وسائل للهدى والرشاد، فوجودها كعدمها
سواء، ولا قيمة لحرية الفكر والاعتقاد ما لم تكن هناك حرية تعبير، إلا أن الإسلام
يميز في مجال حرية التعبير ما بين ''الكلمة الطيبة'' الفاعلة الهادية والمنتجة لكل
فضيلة وخير، وبين ''الكلمة الخبيثة'' التي تقود إلى خراب الفرد وفساد المجتمع.
ومن ثمّ فنحن لا نتحدث هنا عن قيود أو موانع لحرية التعبير
بقدر ما هي معايير وضوابط للكلمة الحرة التي تحمل سمات ''الشجرة الطيبة'' من
الثبات والسمو، ومن طيب المنظر والصورة، ومن استمرار العطاء الإنساني ودوامه، في
مقابل الكلمة الخبيثة التي تكون خالية من كل منفعة، ويصدق وصف الخبث تعبيراً عن
مضارها وآثارها السلبية.
وعلينا أن نعترف بأن أسوأ ما صدرته لنا العولمة هو
الليبرالية الثقافية أو الاستناد إلى ''القيم الأوروبية''، وجعلها معياراً حاكماً
على قيم الجماعات الأخرى، أسوأ ما في تلك الثقافة هو التذرع بخصوصياتها لانتهاك
خصوصيات الغير وتسفيهها والعمل على تدميرها والقضاء عليها بزعم الحرية وضرورة
التعبير، وإقرارها بقدسية ما هي عليه من قيم وحريات وسعيها إلى تشكيل قيم الجماعات
الأخرى على هوى قيمها وحرياتها هي.
ولا ينبغي إذن ـ والحالة هذه ـ أن تذهب بنا المرارة
بعيداً، أو يصرفنا الأسى العاطفي عن واقع الأمور، ووجوب المعالجة والتبصر... نحن
ندرك أنّ الظلم إذ يأتينا ممّن هم وإيانا على طرفي نقيض: شيء طبيعي، ومنطقي...
ولكن... لكم هو أليم على النفس أن يأتي الظلم من '' بيننا!''، ممن هم
يحسبون ـ خطأ ! ـ علينا، إذ هم يحتسبون أنفسهم ـ طموحاً ! ـ مسلمين
(منا)، فتجيء نتائج أباطيلهم وضلالاتهم أقسى وقعاً من عقوق الأبناء، أو أشد مضاضة
من حدّ السيف كما وصف الشاعر العربي، قائل البيت السابق:
وظلم ذوي القربى
أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام
المهند!
على أنّ هذا ـ على نحو ما أسلف القول ـ ليس أكثر من
تفكير (عاطفي) خيالي، وليس تفكيراً عملياً موضوعياً في الحاصل الواقعي... فإنّ ''من
عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها ''وأيضاً ''ومن يكسب إثماً فإنّما يكسبه على
نفسه'' صدق الله العظيم.
فواقع الحال ـ إذن ـ يطالبنا أن نعتصم بإسلامنا الصحيح،
المنزه عن كل ضلالات المضللين، الذي بيّنه الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل. أما
وأنّ النصح لم يجد، والتحذير لم يثمر، والتهديد بأنّ عوج المسلك وسوء المنقلب من
حفنة قليلة تزدهيها '' الشهرة '' المفصلة، وتعمي أبصارها الأموال: سيعود ضرره في
النهاية على المسيء لوحده...
بقلم:
مصطفى قطبي
ليس كل ما يكتب في هذه الصفحة يعني انه يعبر
عن راي " الدبلوماسي"
إرسال تعليق Blogger Facebook