0
على مرأى ومسمع العالم المتواطئ والمتعاطف مع إسرائيل تحشد دويلة الإرهاب جنودها واحتياطييها وآلتها الحربية الهائلة وحقدها الدفين وتشن عدواناً جديداً ضد قطاع غزة المحاصر في محاولة يائسة لكسر صمود شعبه البطل الذي أذهل العالم بصبره وتحمله للحصار والظلم والقمع والعدوان، وبينما انصب قلق دول بعينها على المعتدي والتعاطف معه وتحميل المسؤولية للضحية، كان مستعربو ما يسمى''الربيع العربي'' يعيشون ورطة حقيقية لأن أصدقاءهم الصهاينة خيبوا آمالهم وأحرجوهم، وليس مستبعداً أن يكون بعضهم قد أبرق لنتنياهو معاتباً ومتسائلاً...
لماذا قطاع غزة اليوم، أما كان بالإمكان تأجيل معركة غزة إلى ما بعد انتهاء المعركة مع سورية، فعندما تسقط سورية يسقط الباقون تباعاً دون عناء!
إن التصعيد الإسرائيلي متواصل حتى ساعة كتابة هذه السطور، بينما باتت الجهود الحثيثة الرامية لوقف التصعيد دون نتيجة حتى الآن على ضوء غزارة الدم الفلسطيني النازف، ووحشية الاحتلال، التي لم توفر المدنيين من الأطفال والنساء وكبار السن. وبالطبع، فإن عمليات القصف الصاروخي الفلسطيني تأتي في سياق الرد المنطقي على جرائم الاحتلال وعلى قصف سلاحه الجوي لمناطق مختلفة في قطاع غزة بما فيها مناطق ذات اكتظاظ سكاني مدني في قلب الأحياء حتى المخيمات الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى عمليات الاغتيال الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال، والتي أدت حتى كتابة هذه السطور إلى استشهاد 230 شهيداً وإصابة 1673 جريح، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال.
في هذا المناخ تموج في غزة النار، وفيه تموج ساحات جماهيرية عربية بالغضب والاحتجاج، منادية بموقف وتدخل ومناصرة وحتى بوقف للعدوان على غزة! وفي هذا المناخ أيضاً يستمر تأييد الغرب الإمبريالي للعدوان الصهيوني على غزة ويتنامى، مرسخاً توجهات وسياسات وشروراً وفجوراً تبديه قيادات أميركية وفرنسية وبريطانية على الخصوص، حيث تصف عدوان الصهاينة العنصريين دائماً، وعلى غزة حالياً، المحاصرة منذ سنوات عدة بأنه ''دفاع عن النفس''!؟
تلك مهزلة غربية قديمة يقف منها العالم متفرجاً أو مشلول الإرادة... فماذا نأمل اليوم في ظل المتغيرات والمغيرين والشعارات والمتظاهرين، والقتال والمتقاتلين في هذا الزاروب العربي أو ذاك؟!
هل نأمل في موقف موحد شجاع عادل وجريء يضع العرب والمسلمين في موضع يجبر تلك الدول المناصرة تاريخياً للاحتلال والعدوان الصهيونيين على إعادة النظر بمواقفها من خلال حرصها على مصالحها التي ترتبط بنا نحن العرب والمسلمين، لترى بعين الحقيقة والعدل والموضوعية القانونية والأحكام الخلقية السليمة، فلا تنحاز هذا الانحياز المخل بكل شيء، ولا تضع الجلاد في موضع الضحية والمعتدي في موضع المعتدَى عليه؟!
قد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن إسرائيل حصلت على الموافقة العربية للقيام بمثل هذا العدوان، وإلا كيف نفسر حالة الصمت العربية حيال ما يجري من عدوان همجي ضد المحاصرين في قطاع غزة في الوقت الذي تقيم فيه بعض الدول العربية ـ ولاسيما الخليجية، الدنيا ولا تقعدها ضد سورية التي تواجه الجماعات الإرهابية على أراضيها، وتدعو لتسليح الإرهابيين علناً، وهو ما يجعل هذه الدول شريكة بسفك الدم السوري والفلسطيني، في حين أن واجبها يقتضي بحثها عن كافة السبل الكفيلة بتقوية صمود الشعب الفلسطيني ودعم مقاومته لكي يتمكن من مجابهة العدوان الإسرائيلي المتمادي وردعه، لا البحث في كيفية إضعاف دولة عربية أخرى إرضاء للسياسة الأميركية الاستعمارية في المنطقة.‏
الحق أن الدول التي تمثل الاستعمار القديم ـ الجديد والتي ترى في نفسها رسلا مبشرين ومبعوثين من العناية الإلهية للتبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية المدنيين وحرية التعبير، أسقطت خيارها الأوحد والأخير لإثبات حسن النية والبرهنة على اتساق مواقفها السياسية والأخلاقية حيال ملفات المنطقة، وبذلت قصارى الجهد لتوفير غطاء سياسي وعسكري ومادي وإعلامي مناسب لجرائم الاحتلال الصهيوني بانحيازها لإرهابه وإجرامه ليس في قطاع غزة وإنما في غزة والضفة الغربية.
فالشعب الفلسطيني ينحر وقضيته من الوريد إلى الوريد برماح الديمقراطية الغربية تحت طائلة بند ما يوصف بحق كيان الاحتلال الصهيوني في الدفاع عن نفسه، مقدمين للعالم بأسره صورة منقوصة ومجحفة، بل ومناقضة للحقيقة ليس لعدم تكافؤ الطرفين المتواجهين (الاحتلال الصهيوني والشعب الفلسطيني المحتل) فحسب، بل وإسقاط حق الشعب الفلسطيني في دفع العدوان والظلم عن نفسه وأرضه، وكذلك مساواة رد فعل المقاومة الفلسطينية بالفعل الإجرامي الصهيوني الذي لا يمكن أن يصل إليه رد فعل المقاومة في البشاعة والخسة والنذالة، هذا إذا كان الاتفاق لا يزال معقودًا على أن مقاومة الاحتلال حق مشروع يمنحه ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي للشعوب المحتلة ومن بينها الشعب الفلسطيني.
على الجانب الآخر من المشهد العربي المفجع، فإن الصمت على جرائم الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني دائمًا هو الحالة الاستثنائية، والبحث هنا أو هناك عن وسيلة لوقف تساقط الشهداء الفلسطينيين، وليس لردع المحتل وإنزال العقاب العادل بحقه، وتوظيف جرائم الاحتلال لاسترداد حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة.
وفي ظل هذا التردي لا يزال يمسك الفلسطينيون خيط الأمل في جامعة الدول العربية العتيدة التي تصر على خذلانهم في كل مصيبة صهيونية تحل بهم، وللأسف هذا ما يشجع اليوم الاحتلال الصهيوني وحلفاءه وداعميه على التمادي في إبادة الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته.
فبعد انتظار ثمانية أيام من العدوان على الشعب الفلسطيني، وبعد إعلان مجلس الأمن والوزراء الأوروبيين دعوتهم لوقف إطلاق النار، فقد اجتمعت الجامعة العربية وأنشدت معزوفتها الدائمة بالطلب والتمني والضغط والشجب والتنديد عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، حيث أملت من المجتمع الدولي حماية سكان قطاع غزة، مطالبة باتخاذ التدابير اللازمة للوقف الفوري لإطلاق النار وتوفير الحماية للفلسطينيين.
 ولم يتأخر طويلاً ردّ فصائل المقاومة التي وصفت اجتماع وزراء خارجية الدول العربية بأنه لا قيمة له، والجمعيات الخيرية تقوم بدور أفضل منهم، وقالت لو أرسل القادة العرب لنا ما أرسل لما يسمى ''الربيع العربي'' لتحررت فلسطين منذ زمن، وشددت في بيان على ''أن صواريخ المقاومة غيّرت المعادلة وإسرائيل ستدفع ثمن عدوانها على فلسطين''، مؤكدة أن لا خطوط حمراء في الصراع مع ''العدو التاريخي للشعب الفلسطيني''، وأن للمقاومة إمكانية الاستمرار في القتال لوقت مفتوح، إلا أن ''إسرائيل بدأت تصرخ من اليوم الأول وهي في مأزق كبير وتريد التوصل إلى تهدئة معينة''.
وبدوري أقول لخطباء وزراء الخارجية العرب، إن المقاومين في غزة على الخصوص، وهم بين حصاري العدو الصهيوني وبعض أمتهم، أقوى إرادة وأشد عزماً وأكثر ثباتاً على الحق والمبدأ، من أن يزعزع عزيمتهم رأي وأن يشل إرادتهم حصار جديد أو عزل يستهدف إرادتهم بصورة خاصة، وإنهم أكبر من أن ينال منهم من يريد أن يبلغهم، من منبر جامعة الدول العربية وفي وقت الشدة والمحنة، أن مقاومتهم معزولة، وأنهم وحدهم، وأنه لا مجال لمناصرتهم بالسلاح والرجال، فالعرب اختاروا ''السلام أولاً وأخيراً ولا شأن لهم بالحرب''، وأن الإسرائيليين ''ليسوا ذئابًا...'' ؟!
في حين أن معظم العرب ''نعاج''؟! ومضمون الرسالة تشي به مفرداتُها ودلالات تلك المفردات وتوقيتُها والموقعُ الذي قيلت فيه وما يرتبط بذلك أو يغنيه مبنى ومعنى بصورة ما... أما خلفياتها البعيدة فيُسأل عنها أصحابُها، وتُسأل عنها الحركة الصهيونية وأدواتها مثل ''نتنياهو'' وإخوته!
لن يفتَّ ذلك في عضد المقاومة الفلسطينية بخاصة والعربية في أقطار من وطننا بعامة، ولن يجعلها ترمي السلاح وتستسلم للعدو أو تختار الخيارات التي تقود إلى الاستسلام المزخرف بكلمات ''سلام'' مجردة من فلسطين ''الأرض والتاريخ والذاكرة والمقدسات''، ومن حق عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه التاريخي وتقريره لمصيره بحرية تامة فوق ترابها المحرر مهما طال الزمن...
وأنا أعرف جيدًا ثوابت المقاومين الفلسطينيين وغيرهم ممن عركتهم رحى الحرب وثبتوا على الحق والمبدأ والهدف منذ تأسيس المقاومة في ستينات القرن الماضي وحتى اليوم، وأعرف الجذور العميقة والأهداف البعيدة لفصائل المقاومة، وأعرف بعض من سلَك دروبها ومن ينتظر وما بدل تبديلا...
ولكن ما من شك في أنني أردت بذلك أن أؤكد على أن إرادة المقاتلين في غزة بخاصة وفي مواقع المقاومة العربية ضد الاحتلال الصهيوني والأميركي بعامة، وضد الاستعمار الغربي في أرجاء الوطن العربي، كانت وما زالت أكبر وأعظم وأشد سطوعاً من أن ينال منها ما أريد إيصاله إليها بطريقة ما في الوقت الذي تزف فيه شهداءها وأطفال غزة إلى المقابر...
ليس لغزة أن تنتظر من جامعة عرب نبيل العربي أكثر مما كان من جامعة عرب عمرو موسى. الأولى غطت ناتوية تدمير ليبيا، والثانية تجهد لتكرار ما فعلته الأولى في سورية، تعلم غزة أن من تركها وظهرها إلى الحائط في مواجهة محرقة ''الجرف الصامد''، سوف لن ينجدها وهي تواجه وحشية الصهاينة...
وحيال المحرقة التي ترتكبها ''إسرائيل''، فلا مفر من الاعتراف بأن قطاعات عربية عريضة ـ وأغلبها لديه حس وطني وقومي عالٍ ـ وقعت فريسة لشعارات براقة وآلة إعلامية ممنهجة، فضحتها المحرقة المستعرة في غزة الآن، والتي لا يعلم إلا الله مدى خسائرها، ظنًّا ـ وبحسن نية ـ أن اللئيم قد يجود بمكرمة في لحظة صحوة ضمير، ونسوا أن اللئيم لا تشغله إلا أطماعه وأغراضه الدنيئة، وأن ضميره ثبت موته تاريخيا ذلك درس لا بد أن نعيه جيداً!
إن الموقف العربي التقليدي لم يعد مقبولاً ولا بأي شكل من الأشكال، فالدماء التي تنزف منذ عقود طويلة لم تبلسمها بيانات الشجب ولم توقفها بيانات الاستنكار، كما أن ''إسرائيل'' مطمئنة مادام الموقف العربي على ما هو عليه دون حراك وتحرك ملموس.
إن الشعب الفلسطيني المثخن بالآلام والجراح، وهو يودع كل يوم دفعات من شهدائه الأبرار، لن تزيده جرائم الاحتلال إلا قوة وصلابة وتماسكاً، ولن تثنيه عن مواصلة كفاحه المستديم منذ أكثر من ثمانية عقود متتالية لنيل حقه بدحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال وحق اللاجئين في العودة إلى أرض فلسطين طال الزمن أم قصر.
فالشعب الفلسطيني المعطاء الذي واجه ظروفاً كثيرة صعبة في تاريخ كفاحه الوطني، وكان يتجاوز في كل مرة قياداته: لن ييأس ولن يُحبط وسيظل أصيلا يقدم التضحيات في سبيل إنجاز حقوقه الوطنية. صحيح أن أمتنا العربية تمر أيضاً في ظروف صعبة لكنها وبتاريخها النضالي كانت تعتبر فلسطين قضيتها المركزية، وبرغم كل الصعوبات فإن أمتنا العربية كما هو شعبنا سيظلان يحملان مشعل القضية الفلسطينية حتى تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية والأهداف الوطنية العربية. 

بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger