انتهى رمضان وحطّ الموسم
التلفزيوني الرمضاني أوزاره، وبطبيعة الحال تنقسم الآراء النقدية بالنسبة للأعمال الكوميدية
الجزائرية، ما بين منتقد لها،
باحث عن سلبياتها، مفنِّد لإيجابياتها، وبين آراء تعمد إلى تلقف نصف الكأس
الممتلئ من كل عمل درامي للتركيز عليه وإهمال ما عداه، في
الوقت الذي يؤكد فيه
آخرون على أن رصد السلبيات ولفت النظر إلى الإيجابيات يأتي في
صميم العمل النقدي
التلفزيوني وهو الجانب الذي لا نفتقده في كتابات نقادنا وإعلاميينا المتخصصين
بالدراما التلفزيونية.
لقد اختفى فن الكوميديا بالجزائر، واختفت معه الفكاهات
التي تبرز عيوبنا أكثر ممّا تثير بداخلنا كوامن الضحك على أتفه الأسباب. فالمسلسلات
الفكاهية والسيتكومات الجزائرية الرمضانية التي قدمتها القنوات الجزائرية، أصبحت
تجعل الضحك هدفاً في ذاته، وتقف عند تصوير الظاهر وإثارة العواطف تهيئة للضحك حتى
وإن كان منها ما يخدش الحياء، وكأنّنا أصبحنا لا نضحك إلا على الرخيص من الكلمات
والحركات، ولعل الإنتاج الفكاهي الرمضاني خير شاهد على الإسفاف الذي وصلنا إليه من
خلال كتابات لا ترقى لجوهر الضحك في ذاته.
أنا لا أدعي أنني شاهدت جميع المسلسلات، ولكني شاهدت
معظمها، ويؤسفني القول وبدون تردد، لقد وصل الاستهتار بالجمهور والمشاهد الجزائري
إلى أبعد الحدود وكأن هناك من يتعمد تدمير ذوقه وإحساسه، شطحات وسخافات لا يعرف
المرء كيف يفسرها، بعض المسلسلات توجع الرأس وترفع ضغط الدم وتدخل إلى القلوب الغم
والسأم.
وعند
تناول الأعمال الفكاهية الرمضانية وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها
هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، إذ نادراً ما نعثر على مسلسل يحترم عقل
المشاهد، ويقدم له عملاً فنياً مميزاً، ويمتلك موضوعاً ذي قيمة ثقافية أو سياسية
أو اجتماعية...
لقد
أسهمت الأعمال المعروضة طيلة شهر رمضان، في نسج عقل يمكن تسميته بالعقل التلفزي،
يتكون من خليط من العقول التي تفرض نفسها في الخطاب الشائع، بوصفه العقل الوحيد
الموثوق، إذ يحتقر هذا العقل كل ما يمت بصلة بالفلسفة والأدب والشعر، أي كل شيء
ليس له أو لا يحقق مردودية اقتصادية بمقتضى معيارية وأخلاقيات اقتصاد السوق.
ويطرح
هذا العقل الأسئلة والاستفسارات ذاتها في مختلف المسلسلات الرمضانية، حيث يتم
تلفيق الأجوبة ذاتها، في إجماع مستغرب حول ''الأسئلة'' ذاتها و''الأجوبة'' ذاتها،
إنه التواطؤ الذي يُحلّ الاستفسارات محل الأسئلة، ويميّع الأجوبة.
فالمشاهد الجزائري وجد نفسه مجبراً على مشاهدة مهازل
كوميدية عوض أن تنتزع الابتسامة والضحكة منه. فالكتابة الجزائرية للدراما
الرمضانية ما زالت بدائية وضعيفة في الجانب الفكري والثقافي، وكثير من كتاب السيناريو
الذين يعتقدون أنهم أصحاب شهرة في الكتابة لم يقدموا ما هو مطلوب منهم، لأن هذا
النوع من الكتابة هو علم بحد ذاته له قوانين وشروط، وبالتالي لا يمكن أن نسمي
المتطفلين عليه كتاب نص...
وهناك أيضاً أزمة مخرجين غير مثقفين يقدمون أعمالاً لا
تحمل أي مضمون فكري حتى عندما يقدمون مشكلة اجتماعية يسعون إلى تضخيمها بشكل مثير
دون التطرق إلى معالجتها وتقديم حلول لها والأمثلة كثيرة، هذا يسيء إلى الإنتاجات
الجزائرية لأنها تقدم إلى الناس بأسلوب سلبي لا يحترم المشاهد. فالإنتاجات
الرمضانية الجزائرية التي قدمت طيلة شهر رمضان لازالت متخلفة رغم وجود جيل جديد من
الفنيين من مصورين ومونتاجيين ومكساجيين ومصممي إنارة وصوت...
فقد ظل هؤلاء أسرى الحدود الصارمة التي يفرضها سيناريو
مرتبك نابع من ورشة كتابة، فمثل هذا السيناريو لا يسمح بالخيارات الإبداعية، ورؤية
إخراجية منفلتة تسمح للممثل بالارتجال وبلا حدود، كما أن حداثة تقنيات التصوير لم
تستغل استغلالاً أمثل، حيث بقيت اللقطة أسيرة المكان، والصورة أقرب منها إلى
الثبات منها إلى الحركة، بالإضافة إلى اعتماد الديكورات المبالغ فيها، وكأن
الدراما ما زالت أسيرة الأماكن المغلقة، ناهيكم عن الاعتماد غير المبرر في أحوال
كثيرة على الإضاءة الواسعة.
للأسف، لقد اعتدنا أن ننظر إلى الكوميديا باعتبارها فناً
أقل قدراً من التراجيديا، وذلك لارتباط الكوميديا بالهزل والتراجيديا بالجد،
والجدّ قطعاً أرفع شأناً من الهزل، ولكن هذا المفهوم خاطئ لأنّ فن الكوميديا ليس
هزلاً وإن أثار الضحكات وليس كل الملهاوات حتى ما اقترب منها من الهزل بهازلة.
ومصدر الاختلاط والبلبلة يعود إلى الضحك وما يرتبط بها من اعتباره روح الهزل،
واحترام البكاء وما يرتبط به من نزعة الجد والرزانة...
إنّ ما أقدمت عليه القنوات الفضائية الجزائرية كرهان لإضحاك
المشاهدين في شهر رمضان، يبدو متسرّعاً وغير محسوب، مادام ما قدم لا يرقى إلى
المشاهدة الجزائرية، فما قدم هو عبارة عن إنتاجات محلية تختص جهة من الجزائر وليس
الجزائر برمّتها، حيث تمّ التعامل مع وجوه خاصة من الكوميديين، وتمّ تجاهل وتغييب
فنانين لهم طاقات فنية رائعة وراقية، سواء بالشمال أو الجنوب وبمختلف المناطق
الجزائرية.
أما الفكاهة التي عرضتها القنوات الجزائرية، فقد غاب
عنها الذوق الفني والإبداع، فقد جاءت سطحية اعتمدت بكل أسف على لون التورية
اللفظية وبالذات فن ''القافية'' و''الردح'' وهذا الفن لا يمكن أن يندرج في فن
الكوميديا.
والسواد الأعظم مما عرض على المشاهد الجزائري ليس سوى
زبد لا ينفع ولا يفيد إذ يحتوي على الكثير من الإسفاف والضعف وتفاهة الأفكار،
وتكرارها، ناهيك عن ترويج العديد من المبادىء التي تتعارض مع قيم المجتمع وحرمة
الشهر الفضيل.
فما قدم وما عايناه وتتبعناه يوحي بأن لا تغيير حدث، حيث
ظلت القنوات الجزائرية على حالها، تنتج وتقدم أعمالاً فيها كثرة الكلام وصراخ صوت
الفنانين والارتجال في الحوار والاعتماد على الحركات البهلوانية. ولابد أن نعترف
أن هناك نقصاً واضحاً في الكتابات الكوميدية الإبداعية الجزائرية، وكل ما كتب وما
قدم على القنوات الجزائرية تناول الهزل الشديد دون البحث عن كوميديا جادة تنتقد
المجتمع الجزائري بروح الملهاة الواعية لمدركات الواقع والباحثة عن إرضاء نوازع
الأفراد المتلهفة إلى الهزل بلا معنى أو قيمة.
وللأسف فهذه الكتابات الكوميدية التي تأتي تحت الطلب،
انتشرت لدى عدد كبير من الكتاب الجزائريين، محاولة إرضاء الجمهور بكلمات رخيصة
ادّعوا أنها إبداعاً وقد ساعدهم في ذلك المنتجون الذين لا ينفقون أموالهم على
الأعمال الجادة، ثم تبعهم المخرجون الذين يطالبون الكتّاب بكتابة أعمال ترضي رغبات
المنتجين...
وهكذا اضطر الكتّاب والمخرجون إلى نفخ أي موضوع أو قضية
كيما تملأ الحلقات الثلاثين، فانخفضت الجودة الفنية وبدت المشاهد باهتة وباردة لا
روح فيها تكاد تبتذل مع سطحية العادي من التصرفات والحوارات، ومن جهة أخرى يهرب
المؤلف والمخرج إلى زوايا عارضة وتميّع المواقف ويغلب البطء والتكرار والثرثرة
وتضمحل قيمة الفن المركزة والإشارة والتي تؤكد قدرة المتلقي على التفكير والتأويل
واستيعاب الاحتمالات مع كثير من جوانب الأحداث وملامح الشخصيات الدرامية.
وهكذا تدنى مستوى الكوميديا لتقترب إلى مفارقات عجيبة
لأشخاص لا يتبادلون أكثر من النكات والسخرية من أنفسهم بلا مغزى لما يقولونه، حتى
وصل بنا الحال إلى إنتاجات تجارية اختلط فيها مفهوم الكوميديا بالتسلية عن طريق أي
وسيلة ممكنة... والغريب أننا أمام هذه العاهات الكوميدية لا نجد إلاّ جواباً
مبتسراً في الزعم القائل: ''الجمهور الجزائري يريد أن يضحك''.
لقد أصبحت كلمة ''الجمهور الجزائري يريد أن يضحك''
شعاراً سهلاً ورائجاً لا يدانيه في الرواج إلا الأعمال الفنية الهابطة التافهة
والهزيلة التي يتدثر أصحابها به ويتسترون في داخلها خلفه. وهذا الشعار هو الدرع
الواقي الذي تحتمي به القنوات الجزائرية، ومرجع ذلك أصلاً وأساساً، أن مفهوم
الثقافة لا يزال قاصراً على أنها مجرد حلية أو زينة أو مجالا للتسلية والترفيه
والمتعة، وليست قوة مادية دافعة في بناء حياتنا الإنسانية... ثم لأن الثقافة بفضل
هذا المفهوم وعلى مدى تطورنا بحياتنا نحو الأخذ بأسباب التطور لم تدخل في صميم
تكويننا المتطور كإسمنت لبناءه.
فقضية العلاقة بين المشاهد وما يقدم له من أطباق فنية،
هي قضية الساعة، وهي قضية قديمة متجددة، ولكنها قضية جوهرية يتحتم الفصل فيها
بمقياس صحيح. فالدولة الجزائرية تملك أضخم وأبرز وسائل التعبير الثقافي المسموع
والمرئي... ومع ذلك فإن هذه المؤسسات تنظر إلى الثقافة على أنها سلعة تجارية بحتة
هدفها الربح العاجل وحده.
وقد أدت هذه النظرة إلى ما نلمسه بوضوح في كافة المجالات
من سيطرة القطاع الخاص وغلبه عقلية الرواج بأي ثمن والربح بأي وسيلة... والثقافة
كما هو معروف وثابت، خدمة وليست سلعة، وهي خدمة يمكن أن تعود بالربح على أصحابها
بقدر ما يمكن أن تعود بالفائدة على الجماهير التي تحتاج إليها.
يقول الشاعر الألماني ''غوته'': ''يشتمل التأليف على
حرفة عليك أن تتعلمها وموهبة لا بد أن تمتلكها. '' والحقيقة أن ''الكتّاب يولدون
ولا يصنعون'' لكنه حتى الآن يبدو أن هناك استحالة في اكتساب مهارة التأليف التلفزيوني،
ولم تفلح حتى الآن القرارات والوساطات في أن تخلق كاتباً جزائرياً أو تضعه في عداد
الموهوبين والمبدعين.
فالهزلية التي يشهدها الفن الكوميدي بالقنوات الجزائرية
تعتبر مشكلة، حيث تقدم للمشاهد هذا المستوى الهزيل ليعتادوا عليه وليترك آثاره في
ركود يختفي معه التحفيز، ويتسع الإحساس المغلوط بالحياة مع إلحاح تلك الأعمال على
الجمهور، وفي هذا الموقع نتذكر أن التلفزة ببرامجها وأعمالها الكوميدية غدت
النافذة المعرفية والإمكانية الثقافية لمعظم قطاعات المجتمع الجزائري ممن لم
يحصلوا الدراسة أو هؤلاء الذين يتراجع رصيدهم المعرفي والثقافي مع مغادرتهم
للمدرسة أو الجامعة وانخراطهم في تدبر معيشتهم.
كنا نترقب أن نشاهد هذا الموسم مسلسلات وسيتكومات فكاهية
محترمة، وأن تكون القنوات الجزائرية أخذت بمجمل الانتقادات التي لاحقت وتلاحق
الإنتاجات الرمضانية في كل سنة، لكن الجديد الذي صعق المشاهد الجزائري هو امتداد
المساحات المخصصة للإشهار على طول البرامج المبثوثة.
فعاماً بعد عام يتحول رمضان ـ أو يراد له أن يتحول ـ من
كونه موسم صوم و تعزيز لقيم التواصل الإنساني وتفعيل معادلة الخير في النفس
والمجتمع، إلى مجرد ''سوق'' كبير، ومهرجان مسلسلاتي عابث، شهر مفرغ من معناه
ومبناه الحقيقيين، موسم إشهاري لا يختلف عن الكرنفالات الفنية الشهيرة.
لقد
صار المشهد التلفزيوني الرمضاني المعّد مسبقاً، آلة تنسج عقل المشاهد الجزائري وفق
متطلبات القنوات الفضائية والقائمين عليها، حيث تبرز الصورة التلفزية، التي تضع
مختلف الحواس خلف العين، كي تحول التلفزيون إلى ما يشبه بوابة الجسد إلى الذات
الآخر والعالم والأشياء، وذلك بعد أن أوجدت القنوات التلفزيونية لغة ـ الصورة التلفزية
كنظام يحمل خصوصيته الوسيطة المتناسبة مع مُثل وقيم أصحاب الشركات المنتجة
والراعية للمسلسلات، وبما يخدم قضايا اقتصاد السوق ومصالح أقطابه الرئيسية.
تلك
اللغة التي تقترب من لغة العامة لملايين النساء والرجال، وتحمل الحكاية والمعلومة
ببساطة واستسهال وتلفيق، محولة الكائن إلى مجرد رقم عارض وبسيط في مجتمع المشهد
المسلوب.
ويمكن القول أنه بالرغم من الاعتمادات المالية السمينة
التي خصصت لهذه الأعمال، سواء من طرف المنتجين، أو من طرف القنوات الجزائرية، فإن
هذه الإنتاجات تترجم الرداءة والعجز في ترجمة قضايا وانشغالات المواطن الجزائري.
وشتان
بين الأمس واليوم،
يحدث هذا مع المشاهد الجزائري الذي لا يملك إلا أن
يضغط على زر جهاز التحكم ويرحل بعيداً مع الفضائيات العربية التي تتلقفه بصدر رحب
ليتذوق طعم الدراما السورية والمصرية وحتى الخليجية ويستلذ بنكهة أعمالها المتميزة
ولسان حاله يردد ''الجديد ليه جدة والبالي لا تفرط فيه''.
فلا شيء آخر في رمضان هذا العام، غير مسلسلات الخردة
والإعلانات التي اغتالت شهرهم الفضيل بشكل مقنن و مدروس بعناية. فقد أصبح الإعلان
ركيزة تجارة الإعلام وجوهرها ودجاجتها التي تبيض ذهباً، واقتحمت البيوت الجزائرية شركات
متنافسة تضع عيناً على استغلال المشاهد، وقلباً على جيب المعلن، ولا شيء آخر.
فعقول المواطنين الجزائريين وقيمهم، أصبح العبث بها مباح
مباشرة على الهواء عبر ضخ كبير للماركات التجارية المختلفة والمتنوعة لأن حقوق
العبث محفوظة، أما الإشهار والمستشهرون الذين حوّلوا الشهر الكريم إلى مساحات بلا
نهاية وبلا حدود للإعلانات بكل أشكالها وأهدافها و سلعها وقيمها وتجاوزاتها في
أحيان كثيرة... فلا يجوز العبث بماركاتها التجارية، فحقوقها محفوظة.
بقلم: مصطفى
قطبي
|
إرسال تعليق Blogger Facebook