يأتي شهر رمضان المبارك، ليكون بمثابة واحة ظليلة،
يتفيأ تحتها المواطن الجزائري، من هجير الحياة ولفحها الحارق... ومع قدوم رمضان
تؤدَّى العبادات التي يغفل البعض عن أدائها في بقية أيام العام، لتصبح خاصة
بهذا الشهر الفضيل دون سواه، ويغتنم رياح الإيمان السانحة، التي تهب من أعالي هضاب
التقى، فلا يبخل من إنفاق الصدقات فيها، والذي عادة ما يؤقتها الناس مع أيام
هذا الشهر، ابتغاء
الأجر والثواب بإذن الله.
ومع دخول هذا الشهر يعيش المجتمع الجزائري حالة
إيمانية مختلفة، وكأنه يتطهر من الأدران التي لحقته خلال الشهور الماضية، فمن لم
يدخل المسجد طوال العام، سيدخله حتماً في هذا الشهر، لأداء الصلوات الخمس،
والتراويح، والجُمع، ومن لم يتصدق مرة واحدة خلال شهور العام، سيصبح سخياً وكريماً
في أيام هذا الشهر، ومن لم يسعه الوقت ليقرأ دعاء واحداً بعد أداء صلاته المفروضة،
سيرفع أكف الضراعة، ويسبِّح ويحمِّد ويكبِّر، وكأن التديُّن لا يصح إلا خلال أيام
هذا الشهر، والسلوك الإيماني لا يليق، إلا مع أيام هذا الشهر الفضيل.
فجأة أصبح المجتمع الجزائري متديناً، فالكل يقبل
على أداء الصلوات المفروضة جماعة، ولا يفوِّتون على أنفسهم صلاة التراويح، التي لم
يصلّها نبّينا الكريم جماعة إلا أياماً معدودة، بحسب ما يروى في كتب السيرة
النبوية، حتى لا تفرض على الأمة، أما اليوم فقد أصبحت التراويح مقدمة على كل
الصلوات، ولذلك تزدحم المساجد والجوامع بالمصلين، فيأتون من كل حدب وصوب، ولا
يفوتهم قيام من صلاة (التراويح)، التي هي روح وريحان وجنة نعيم.
القنوات الإعلامية الجزائرية (إذاعة وتلفزيون)،
تصبح فجأة هي الأخرى متدينة، والمذيعون وعاظاً وحكماء وفقهاء، فتبث الإذاعات
الأناشيد الدينية، ويقل بثها للأغاني التي اعتادت أن ترهق أسماعنا بها طوال العام،
والحمد لله على نعمة التحول والتغيّر...
فمع دخول هذا الشهر الكريم تخف حدة الترقيص
والتطريب، هذا رائع جداً جداً، مع أن بعض البرامج الدينية التي تبثها الإذاعات
ضعيفة ومكرورة، ولا تقدم للمستمع الجزائري جديداً، وبعضها مثرٍ ومفيد، بحسب مقدم
البرنامج وسعة ثقافته، وإشراقاته التي تفيض إلى المهج وتسكن القلوب.
ومع دخول رمضان، وطوال أيامه المباركة، يصبح الكل
متديناً، حتى الأسواق التجارية تلبس العباءة والخمار وتقصِّر من ثوب خيلائها
الطويل، فتستغل هذه المناسبة، لتبث تلاوات متواصلة للقرآن الكريم، عبر أجهزة
ناقلات الصوت، التي تنتشر في كل مكان، بعد أن كانت ترهق الأسماع بأغانٍ رخيصة
وأصوات مزعجة، تتحول الأسواق التجارية بسببها إلى مراقص وملاه والعياذ بالله...
فالزائر يستصغر نفسه ووجوده فيها، ويتمنى لو لم
يدخلها، لما يسمعه من سخف غنائي، لكن بثها لتلاوات القرآن الكريم ليس دائماً ولا
متواصلا، وكأن سماع القرآن خاص بشهر رمضان دون سواه...
ولابد من الإشارة إلى وثوب الناس على الأسواق خلال
هذه الأيام، كوثوب السبع الضاري على فرائسه، وهو أمر ملحوظ ومعاش، وبسببها تساق
العربات المليئة بما لذ وطاب إلى البيوت، وكأننا مهددون بمجاعة قادمة، أو أن
الأكباد ستحترق، والأحشاء ستذوب وتذوي من حرّ العطش وشدة الجوع، ولذلك تزاحم الناس
على الأسواق، بصورة تؤكد أنهم في غمرة ساهون، منساقين وراء الدعاية المفرطة التي
تضخها هذه الأسواق، فيتأثرون بها تأثراً سلبياً، ليصبح رمضان شهر أكل وطعام، وليس
شهر عبادة وصيام.
بقلم:
مصطفى قطبي
إرسال تعليق Blogger Facebook