0
كشفت صيرورة وتطور الأحداث فيما سمي ''الربيع العربي'' أن الهدف الأول لها هو إسقاط مفهوم الدولة الوطنية بالدرجة الأولى عبر إسقاط كامل مكوناتها من سلطة ومؤسسات ومقومات حياة اقتصادية وحتى اجتماعية لتتقهقر بالتشكيل الاجتماعي في هذه البلدان لما قبل مفهوم ''الدولة الوطنية'' عبر التكتلات الطائفية والمذهبية والإقليمية.



وماذا كانت الإمبريالية العالمية ستفعل، لو أن دولتين عربيتين أعلنتا الوحدة، وأزالتا الحدود بينهما؟ هل كانت ستكتفي بالتفرج، كي لا نقول التشجيع، كما فعلت، و ''داعش'' يزيل الحدود أو ''صنم الوطنية'' كما سمّاها بين العراق و سورية، في مشهد دراماتيكي لم يخل من لمسات هوليودية...

 الجواب واضح طبعاً، فالاستراتيجية الإمبريالية في المنطقة العربية كانت ومازالت استراتيجية تقسيمية ثابتة، بدءاً من تجزئة سايكس بيكو، مروراً بدق الإسفين الصهيوني في قلب الوطن العربي لمنع وحدته، وصولاً إلى تجزئة المجزأ التي دخلت طور التنفيذ مع مطلع القرن الحالي وصعود المحافظين الجدد إلى سدة السلطة الأمريكية.


فإذا كانت اتفاقية سايكس بيكو قد اعتمدت تقسيماً جغرافياً سمح بظهور دول قطرية متعددة الطوائف والمذاهب والأعراق، وأوجدت بذلك، البيئة الملائمة لإنشاء الكيان الصهيوني، فإن التجزئة الجديدة المطلوبة تعتمد إسقاط وتفكيك تلك الدول وتقسيمها على أساس طائفي ومذهبي وعرقي يبرّر تحقيق يهودية الكيان الصهيوني، ويضمن بقاءه وأمنه، ولا سيما بعد أن تأكد أنه فقد ميزة التفوق العسكري المطلق، ولم يعد يستطيع التغلب على المقاومة.

 حيث تصب خدمة المخططات الصهيونية القديمة التي يتم العمل عليها الآن بتعاون وثيق بين  ''إسرائيل'' وحلفائها من الدواعش وأعوانها ومن يهزجون في عرس ليس لهم فيه إلا التعب والخسارات بأنواعها وبعض الغضب، وحدد أولئك الناقشون على جبهة الحدث موقف كيانهم ودوره بشيء من التمني أو التوقع أو الطلب إن صح التعبير، فقال قائلهم: ''إسرائيل مطالبة بأن تواصل الاستعداد لسيناريو انزلاق الأحداث إلى حدودها... يحتمل أن يكون حان الوقت للاستعداد فكرياً بل وعمليا لنشوء فكرة إعادة تنظيم المنطقة السورية العراقية، وأساسها تفكك الدول القومية القائمة وإقامة دول على أساس طائفي/عرقي: دولة علوية في غرب سوريا، كردستان في شمال العراق وسوريا، دولة سنية في منطقة شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا، ودولة شيعية في مركز وجنوب العراق.



يحتمل أن تكون خطوط التقسيم الطائفية والعرقية هي الأكثر طبيعية واستقراراً''... هذا بعض ما نقشوه على صفحات وجوههم باستبشار، وفي هذا الإطار يرى الصهاينة الخطر المحدق بالأردن، وأعينهم لا ترتفع عن الأردن، وهم يرون أنه في خطر وأنه ''يحتاج إلى سند عسكري استراتيجي واضح، وأن السند الاستراتيجي والعسكري الوحيد العملي له هو ''إسرائيل''...



ويأتي هذا في الوقت الذي أبدت فيه المملكة العربية السعودية قلقها على الأردن واستعدادها لإرسال قواتها لحمايته من التفكك على يدي التنظيمات المسلحة وعلى رأسها داعش التنظيم الذي خرجت مسيرات مؤيدة له في ''معان'' جنوب الأردن، ورُفعت راياته هناك على حدود السعودية مع الأردن...



ونتساءل: أي وطنية يمكن أن تتشدق بها تلك الأفواه التي استدرت تعاطف الكثير من الغوغاء حتى انتهى بها الأمر إلى ''داعش''؟ ثم ما هذا اللفظ الكريه؟ هل هذا هو إثمار الربيع العربي في المنطقة العربية؟



فالدولة لا تعني شيئاً بالنسبة للدواعش تُجّار الدين ومُحترفي الإرهاب بمختلف أنواعه، لذلك فهم اليوم يتفقون والمُستعمرين الجُدد على إضعاف الدول العربيّة، بل إسقاطها بعد إنهاكها لتتدمّر تباعاً ويسهل بذلك الانتقال عبر الحدود.


ولا يحتاج المرء للكثير من المعاينة لدراسة ما أصاب المنطقة العربية، فكل حالة من حالات البلدان العربية التي اغتسلت بمياه ''الربيع” الحارقة'' كي يتأكد على نحو لا يقبل الشك من أن النتائج النهائية للربيع إنما تشير إلى أنه لم يكن يزيد على خرافة استغفلت بها الجماهير التي تمتطيها غرائز الجماعة والانفعال العمياء لتفرض عليها قصر النظر وسهولة الانقياد وراء الضوضاء على سبيل استبدال الاستقرار و''الوضع الراهن''، كما يقول السياسيون، بالفوضى والميليشيات والاغتيالات والتفجيرات.


لك أن تمسح العالم العربي بنظرة شمولية، من شرقه لغربه لترى ما الذي فعله هذا الربيع بنا، فالأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربيّة بدأت تميط اللثام عن وجه آخر أكثر فظاعة للتآمر على ما تبقى من سيادة الدولة الوطنيّة العربية، و ذلك باستهداف آخر ما تبقى من سلطتها الفعليّة، و تحديداً كلمتها السياسية في تسيير شؤون المجتمع رغم انتقال جلّ مراجع القرار الاقتصاديّ من دائرتها إلى دوائر أخرى من خواصّ وأطراف أجنبيّة، وكأنّ هذا الذي تبقى لها يُمثل حجر عثرة ينبغي إزاحته بالرجوع إلى الاستعمار القديم من غير احتلال مباشر للبلدان بعد أن أحدثت الرأسماليّة بالتدخل في كلّ شيء، ومراقبة كلّ صغيرة وكبيرة ومعاقبة من يقف في طريق تعميم هيمنتها ببراغماتية عجيبة لا تفارق بين الخصوم و الأنصار، وتفاجئ الجميع بالانتصار لمصلحتها على أيّ عميل، غير عابئة ''بالأصدقاء'' والأنصار، كالذي فعلته بكلّ من رئيسيْ تونس و ليبيا ومصر واليمن السابقين.

وهل غياب مركز القرار المرجعيّ في الدول التي اجتاحها ''الربيع العربي''، يُراد به اختصار مؤسّسة الدولة في واجهة التمثيل الشكليّ، على غرار ما كان يحدث ولا يزال إلى اليوم في بلدان الخليج العربيّ حيث سيادة الدولة تنحصر في الظهور التلفزيونيّ والسفر لحضور القِمم والمؤتمرات والتهنئة بالعيد وغيره ؟

هل يُراد بانتهاك الدولة وإنهاكها قتلها وتحويلها إلى صورة للاستهلاك الرمزيّ اليوميّ فحسب، ليكتمل بذلك المشهد الاستعماري الجديد، بل الأجَدّ و تعميم ذلك على جميع البلدان العربيّة تحت عنوان كبير هو الديموقراطيّة ؟

والثابت أن الإخفاق الاقتصادي للثورات العربية الذي تمثل في انعدام الاستثمارات وهروب رؤوس الأموال وانعدام السياحة بل وتوقف الإنتاج في العديد من المشاريع وما صاحبها من زيادة كبيرة في أعداد الباحثين عن العمل والفقراء، وغيرها من الخسائر التي أدت إلى ارتفاع الأصوات من الغالبية الصامتة بتوقف المظاهرات والتوجه إلى العمل والإنتاج بقوة للمحافظة على معدلات الدخل حتى ولو كانت منخفضة.

ومع أنه لا توجد أرقام دقيقة حول الكلفة الاقتصادية لتلك الانتفاضات إلا أن حساب المكاسب والخسائر للمنطقة، يشير إلى فائدة اقتصادية، ويعني ذلك أن حصيلة ارتفاع أسعار النفط لدى الدول المنتجة أكبر بكثير من خسائر الدول التي شهدت انتفاضات، وتعود الخسائر الاقتصادية لتلك الدول نتيجة تأثر الإنتاجية الاقتصادية سلباً بالانتفاضات الشعبية...

هذا عن تأثير الأحداث الحالية على المستوى الاقتصادي وعليه يقاس في مجال المستويات الأمنية والاجتماعية والتي تأثرت تأثراً مباشراً بتلك الأحداث وهو تأثير سلبي ـ للأسف ـ إذ طغى الانفلات الأمني على مظاهر الحياة في البلدان التي شهدت تغييرات ملحوظة ـ سلبية أوإيجابية ـ مهدداً حياة وأملاك الأفراد العاديين بل والممتلكات العامة، ناهيك عن تدني المستوى الاجتماعي والمستوى التربوي وما صاحبه من انتشار للشائعات واعتماد الغالبية العظمى على ما يمليه عليهم الإعلام دون توخي الحذر في استقائها من مصدرها ولم يكن ذلك هو الوجه الأوحد لتدني الحالة الاجتماعية بخاصة إذا ما أضفنا عدم الاعتراف بحق الغير في التعبير عن وجهة نظره واحتكار ذلك الحق وقصره على فئة قليلة وعدم السماح لغيرهم بالإفصاح عن أفكارهم بل قد يتم استهجان تلك الأفكار وتشويهها عمداً من خلال الآلة الإعلامية الموجهة وهو ينعكس على الفكر العام ومستواه لدى كافة الشرائح.

ولمواجهة تلك التحديات الاقتصادية والفكرية والأمنية والاجتماعية يجب توضيح أن معظم تلك الأحداث وإن كانت تظهر بمظهر المطالبات الداخلية اعتماداً على القائمين بها ـ أدواتها ـ إلا أن الواضح أن وراءها أياد خفية خارجية تعبث وتدبر الأمور في الليل البهيم بل وتدعم تلك الأحداث وتمولها لأهداف تقدرها وتعلم جيداً مدى الاستفادة من ورائها، وسواء كانت تلك الأيادي المدبرة داخلية ـ متلقو التمويلات الخارجية منذ سنوات عديدة ـ أم خارجية تمول من الخارج فإن هدفها واضح ومفضوح ولكن قد يعمى ذلك على الكثير من البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

ولعل من أكبر الأدلة على ذلك من أرض الواقع أن كثيراً منهم شارك في أتون تلك الأحداث ولكن ما إن اتضحت لديهم حقيقة تلك الأحداث وما وراءها ومن ورائها، واكتووا بنيران آثارها حتى انقلبوا يسبون الأحداث ويستنكرون ما أفرزته، مؤكدين أنهم لم يشتركوا فيها لتكون تلك هي النتائج بل كانت أحلامهم وردية لا تتعدى المطالبة بتحقيق مطالبهم المشروعة، ولكنهم أفاقوا منها على واقع أليم ـ من وجهة نظرهم ـ مما حدا بهم للانقلاب على ما كانوا يضحون من أجله بمشاركاتهم.

في مؤتمر القمة الإسلامي العاشر الذي انعقد في كوالا لامبور قال الرئيس الماليزي السابق محاضر محمد ما يلي: لا أريد أن أعدّد ما تعرضنا له من إذلال وقهر، ولا أريد إدانة الذين ظلمونا، لأنّ ذلك لا يعدو كونه جهداً تافهاً لن يؤدي إلى تغيير مواقفهم منا، وإذا كنا نريد استعادة كرامتنا وكرامة الإسلام فعلينا نحن أن نقرر، وعلينا نحن أن نفعل. جميعنا مظلومون نعاني من القهر والإذلال، لكننا نحن الحكام لم نجرّب قط أن نعمل متضامنين، فبدل أن نكون أمة واحدة انقسمنا إلى شيع ومذاهب وطرق مختلفة، فصارت الدول الإسلامية ضعيفة تعيش حالة دائمة من الفوضى والغليان، وصار الأوروبيون يتصرفون في الأراضي الإسلامية كما يحلو لهم، ولم يكن مفاجئاً أن يقتطعوا منها مساحة يقيمون عليها ''إسرائيل''!

لقد قال تعالى: ''إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم''، وعدد المسلمين يبلغ اليوم 1.3 مليار نسمة، ولديهم أعظم احتياطي نفط في العالم. إنّ ثرواتنا عظيمة، ونحن نعدّ 50 قطراً من أقطار العالم التي تعدادها 180 قطراً!

إننا نخضع لمشيئة ظالمينا تحت ضغط قاهر، فكيف يجب علينا أن نتصرف؟ إنّ ردّ فعلنا هو الغضب! لكنّ الإنسان الغاضب لا يحسن التفكير، وهكذا تأتي ردود أفعالنا بعيدة عن العقل.

فهل سيبقى المسلمون أبداً مقهورين ومحكومين من قبل الأوروبيين واليهود؟ هل سيبقون دائماً فقراء وضعفاء ومتخلفين؟ هل صحيح أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً؟ هل صحيح أنّ 1.3 مليار مسلم لا يملكون القوة لإنقاذ أنفسهم من الإذلال والقهر الذي ينزله بهم خصم أضعف منهم بكثير؟

 إنّ صَوملة كلّ من الوطن العربي والعالم الإسلامي كافة بصفة مرحلية في اتجاه صَوملة الحلقات الضعيفة الأخرى في العالم داخل إفريقيا وآسيا هو عنوان المشروع المتبع لدى المستعمرين الجدد، وأدواتهم من فواحش الدواعش المتوحشة، مُستثمري التطرّف الدينيّ والسياسي، سماسرة الأوطان، بعد تخريبها، وأسلوبهم في العمل هو الاستفادة الفورية من الأزمات والانتفاضات والنعرات الطائفية والقبلية لتحقيق الربح العاجل بأي شكل غير عابئين بالدماء المسفوكة والأرواح المزهوقة، عدوّهم أو معوقهم الأوّل هو الدولة الوطنية، لذلك نراهم يوجهون نيران دسائسهم إلى أي مَعلَم للدولة العربيّة والإسلاميّة الحديثة بتخريب مجمل مؤسّساتها وتحريض أبنائها والأغراب عليها، وطمعهم الرائع مُوجه بالخصوص إلى البلدان العربية والإسلامية الثريّة نفطاً وغازاً ومعادن وغيرها، وإلاّ فلماذا أفغانستان والعراق والصومال والسودان وليبيا وسوريا... في انتظار مثيلاتها، إن لم ندرك حقيقة هذه الأخطار ونعمل رغم خلافاتنا واختلافاتنا على وقف النزيف العام، هذا النزيف؟

إننا اليوم، وبعد أن انكشفت أبعاد المؤامرة على الوجود العربي مطلوب منا نحن أبناء العرب الأحرار أن نستنفر قوانا للتصدي للمشروع الاستعماري، ونضرب بيد من حديد على أيدي كل من يدعم جماعات الدواعش وأخواتها المجرمة التكفيرية، ونعلن الحرب عليهم أينما كانوا وحيثما حلوا، فهم قتلة وعملاء  و مأجورين وأعداء للأوطان والشعوب...

فكل من يدافع عنهم بمثابة العدو الصهيوني، وكل من يسوق لهم أفكارهم عدو يجب مقاومته، إنها معركة الوجود بين شرفاء الأمة وخونتها، إنها مرحلة الفرز بين الوطني واللاوطني بين العروبي وبين عدو العروبة، بين الدين الحقيقي وأعداء الدين، فلا مكان للحياد، وبالتالي على أبناء القوى الوطنية والقومية في الأقطار العربية الوقوف إلى جانب سورية والعراق... والضغط على الأنظمة العربية الواقعة في السحر الامبريالي الصهيوني للكف عن دعم هذا المخطط الشيطاني، و قطع الأيدي التي تحاول العبث بأمن الدولة الوطنية.

فمن يريد أن تكون الأمة العربية بخير، عزيزة مستقلة مهابة الجانب عليه العمل بكل ما يملك لدعم الدولة الوطنية والقوى العربية المقاومة للامبريالية والصهيونية.‏

فنحن أقوياء ولا تمكن إبادتنا ببساطة. هناك مصادر قوة عظيمة متاحة لنا، والمطلوب فقط هو الإرادة!


     بقلم: مصطفى قطبي

إرسال تعليق Blogger