0
العمارة في السابق كانت خير معبّر عن المفهوم البيئي، وهي كما يقول هيدغر ''بيت الوجود''، لكنها أصبحت مع الوقت اعتباطية فاقدة الشخصية، كما أنها صارت في عالم الحداثة بعيدة عن شروطها التي تتمثل في التوافق والسكينة.

 في الجزائر، وكما هي الحال في بقية دول المغرب العربي ظهرت خلال السنوات الأخيرة نهضة عمرانية واسعة، يُعتبر القطاع العقاري فيها من أكثر القطاعات حيوية، وتختصر هذه النهضة غير المسبوقة مشاريع عقارية فريدة من نوعها، تتراوح بين العمارات العملاقة والأبراج الشاهقة، ولم يحدث في ماضي المدن الجزائرية أن تسارع إيقاعها العمراني مثلما حدث خلال نصف القرن الأخير، وبالتزامن مع حالة الجذب البشري هذه، دخلت أنماط بنائية كانت الحظوة فيها للغرب صاحب الغلبة، والنتيجة تجسدت في مدن غربية داخل بيئة جزائرية...


وفي ظل هذا الواقع تلوح في الأفق ملامح سؤال عن المعاني الجمالية التي يراها المعماريون الجزائريون في هذه النهضة العمرانية غير المسبوقة في تاريخ هذا البلد الذي ضمّ بين جنباته كل صنوف العمارة العالمية، وتبارت على أرضه مختلف المدارس المعمارية.


من خلال دراستنا للعمارة، نجد أن التعريف اللائق بها، هي أنها ثمرة للتفاعل بين الإنسان والبيئة والمهندس المعماري، وهي التي تحقق لهذا الإنسان الحد الكافي من متطلباته البيئية، والحد الأدنى من الشروط الصحية اللازمة لمعيشته، وهو ما ينعكس بدوره على درجة نوعية وكفاءة البيئة، ومدى انتماء الفرد لتلك البيئة، والتزامه ووعيه بالمحافظة عليها.


والعمارة المحلية خير دليل على التوافق مع البيئة والصداقة معها، ونظراً إلى التوسع في البناء من دون النظر إلى الكيف، واستخدام النماذج التصميمية غير المتلائمة مع البيئة ومع شاغليها اجتماعياً واقتصادياً، ظهر هذا النمط من المباني الملوثة للبيئة، وإقحام الثقافات الغربية غير المناسبة للظروف المحلية الجزائرية من خلال الغزو الفكري على المجتمع الجزائري بعامة، والمعماريين بخاصة، ولأن العمارة هي نتاج الفكر والثقافات فهي متأثرة بكل المجالات، بما فيها السياسي.


وفي ما يخص العلاقة ما بين العمارة والبيئات المحلية الجزائرية، فإن كثيراً من المباني المعاصرة تجاهلت عوامل البيئة حتى هيمنت القشرة الزجاجية على مبانيها، وتوجهت المساكن إلى الخارج بدل الداخل، وانكشفت فتحاتها على أشعة الشمس المباشرة، إضافة إلى أنّ المسطحات الزجاجية تعتبر المصدر الرئيسي لنفاذ الحرارة إلى داخل المبنى. والزجاج كما هو معروف يزيد من النفاذ الحراري إلى الداخل بمقدار يفوق كثيراً النفاذ الذي يحدث من خلال الأسطح المعتمة، كما أنّ القشرة الزجاجية بخاصة في المباني التجارية والمكتبية والمُحكمة الإغلاق والتي تعتمد على التكييف والتبريد الميكانيكي تعرّض هذه المباني للأشعة المباشرة، حيث تتراكم وتتكدس تأثيراتها داخلها، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني والقطاع الكهربائي على وجه الخصوص.


كما أن اللمسة الجزائرية الإنسانية قد اختفت في المباني العصرية، وحلّت مكانها الآلة، فالتصميم الفني للعمارات الشاهقة بعيد عن لمسة الإنسان، على عكس الحميمية التي تنسجها علاقة اليد مع الطين، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن نرجع إلى الطين، لكننا بحاجة إلى هذه العلاقة الحميمية حتى بأشكال بيوتنا.

 فانعدام التوافق بالرغم من أنّ نمو المدن حقيقة من حقائق التوسع المستقبلي وضرورة لاستمرار العمران، لكن مراعاة عوامل التوافق والتوازن بين النمو العمراني ومحددات البيئة المحيطة به يمثل حاجة ضرورية إلى توفير الراحة والأمان والخصوصية واستمرار التنمية المتناغمة للإنسان والمكان...


لذلك فإن التوظيف الأمثل للموارد والإمكانات الطبيعية المتاحة في الجزائر، والأخذ بالأساليب الحديثة المتوازنة وتوافق البيئة والعمران يمثل ضرورة لازمة لتحقيق المنظومة العمرانية المتجانسة، التي يمكن أن تحقق تطوير نمط البناء والتشييد، بما يتوافق مع معطيات البيئة.


إنّنا محاطون بهالة من التطورات عن مختلف نواحي الحياة من حولنا إلى الدرجة التي صارت فيها المساكن الجزائرية تفتقر إلى مقومات التوافق مع المحيط من حولها، بمعنى أن المساكن أصبحت منفصلة عن البيئة حولها، وبدأت تئن من الآلام الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مع بداية التنمية العمرانية الحديثة، فهي تحتاج إلى أن ينظر إليها من قبل المعماريين والمهندسين.

فنحن في حاجة إلى نظرة بيئية تتمحور حول مفهوم العمارة البيئية، لأنّ أهم أهداف هذه العمارة ببساطة مأوى جميل مريح، ويمكن تحمله ولا يضر بالأرض، لذلك يلزمنا أن تحدد مواد البناء المناسبة ما أمكن، والحد من المواد الناضبة، فيستعاض مثلاً عن المواد العازلة المصنعة بفراغ هوائي بين جدارين، وكذلك البحث عن الطاقات الطبيعية بدل الصناعية...


فالمسكن الجزائري في حاجة إلى التوجه نحو استخدام الإضاءة والتبريد والتهوية الطبيعية بدل الميكانيكية أو الصناعية بنسب كبيرة، نحن في حاجة إلى أن يميل المسكن إلى النواحي الطبيعية عموماً، وإلى مساكن تبقى وتظل فترة طويلة، وتخدم أكثر، وتكون أقل حاجة إلى الصيانة حتى تتوارثها أجيال بعد أجيال.
بقلم : مصطفي قطبي

إرسال تعليق Blogger