
من ينعم
النظر في الحراك الإبداعي الجزائري المعاصر يجد كثيرين من المبدعين الجيدين الذين
لم يأخذوا
فرصتهم في النشر والانتشار، ومعظم هؤلاء بعيدون عن المؤسسات الثقافية (الرسمية
والخاصة). وبالمقابل فإننا نجد كثيرين من الكتبة الطارئين على الإبداع، والوافدين
على ساحته من الأبواب الضيقة، وفي الأوقات الضائعة احتل
هؤلاء مكانة بارزة، لسبب ما، مع أن معظم ما أنتجه الكتبة لا يعدو أن يكون محاكاة
أو تقليداً أو سرقة من الشبكة العنكبوتية، التي تفسح المجال لهم لأن يؤلفوا
كل يوم كتاباً.
فواحدة
من أكثر ''الأمراض'' التي بدت مزمنة هي ''الاستسهال'' الكتابي إذ تتفنن الصحف
بملء صفحاتها بغث الكتابة وكيفما اتفق والخروج بصفحات هزيلة لا تجد فيها ما يشدك
للقراءة أو يستحقها إلا ما قل وندر.
''الاستسهال'' لا
يتوقف عند ''أملئ الصفحة واذهب'' أو ''أكتب المادة وادفع بها للنشر''،
بل يتعدى ذلك إلى سرقة جهد الآخرين عبر مواد صحفية تكاد تكون السرقة كاملة وبالفاصلة
ودون أن يرف جفن قلم لسارق، وفوق هذا فإن السارقين يتبجحون بموادهم وحتى بسرقاتهم
لأقلام الآخرين تحت حجج يسوقها بأن ''الجميع يسرق'' ظناً منهم أن ذلك يشرّع لهم
اللجوء إلى السرقة، وتجد من بين هؤلاء من يعتبر أنه له الحق بنشر ''سرقاته'' وعلى مسؤولي
التحرير بالصحف فرش السجاد الأحمر ''لإبداعاتهم'' التي نهبوا حبرها من تعب وعصارة
جهد الكتاب والصحفيين.
وإذا
كان موضوع السرقات كان يتم سابقاً بالخفاء وتحت جنح الورق الأصفر في الأقبية
والدهاليز فإنه اليوم يتم في وضح نهارات وصفحات العم ''غوغل''، هذا العم نفسه الذي
يفتح صدره بلا حدود فإنه فضّاح بلا حدود ولا يكتم سراً ولا يتستر على سارق.
فكم
من دخيل على الإبداع يمتطي فنونه كما تركب القشة لجة البحر. وحتى يتمكنوا من الانتشار
والاستمرار سخّروا بعضاً من أنصاف الكتّاب للكتابة عما يبلون المتلقي به، بأجر أو دون أجر.
لصوص
الكتابة ومدّعو الثقافة يكتبون في النقد الأدبي لروايات لا يقرؤونها ومجموعات
قصصية لا يعرفون عنها إلا العناوين... وهم يعملون على مبدأ سوق ''الاسترزاق''
السلعي في الكتابة والنشر وتركيب عبارات وجمل على مبدأ الكلمات المتقاطعة في توليفة
ركيكة وخاوية.
فهذا
قاص من الدرجة العاشرة يدفع لكل من يكتب عنه، ويدفع أكثر لمن يجمع ما كتبه
الآخرون عنه في كتاب ما، وذاك روائي مبدع ولكنه مولع بقيم الجوائز المادية التي
تقدمها بعض المسابقات، فمرة يربح بإسمه ومرة بإسم أخيه ومرة بإسم زوجته، وكل ذلك على
حساب إبداعه المتألق الذي يوزعه على من حوله، من أجل المادة ليس أكثر.
وبعضهم
لم يكتف بذلك بل جلبوا المصّفقين والمطبّلين، جاعلين من مبدعهم (دون
كيشوت) جديداً، غالباً ما يدفعه الوهم إلى جنون العظمة، الذي يجعله (واهماً) أن
شيطان الإبداع وقف عند بابه ولن يبرحه أبداً،ً وذاك شاعر/ كاتب كتب في حياته عدداً من
الدراسات يعيد نشرها كل عام بعد أن يوزعها بإتقان على الصحف، معتقداً أن المتلقي
جاهل أو غبي أو غير متابع لما ينشر أو ذو ذاكرة مثقوبة...
ويا
ويل من لم يكن وراءه شلة تلفق له الأسماء التي تكتب عنه وتدعم جنونه... فهناك
مافيا المجلات التي تستقبل فلاناً وتطرد آخر أو تتأمل وتتريث حتى تأتيها تزكية
الكاتب من كاتب آخر ينتمي إلى تيارها أو شلتها.
مسموح
لك أن تنتقد المؤسسات الحكومية أمامهم... بل يشدون على يديك إذا انتقدت وهدمت في
هذه المؤسسات وسيبتسمون أكثر إذا تطاولت أكثر وصعدت درجات الهرم... ومسموح لك أن
تنتقد من يخطر على بالك من المحيط إلى الخليج، ولكن غير مسموح أن تقول رأيك في قصة
صاحبة الكاتب، أو قصيدة خليلة الشاعر، فكيف لو قلت رأيك به شخصياً وكان من أصحاب
النفوذ الإعلامي وسلطوية المجالس الأدبية؟
والويل
لك كل الويل إذا انتقدت ربطة عنقه أو لون سترته، هذا لا يجوز، أما هو فيحق له أن
يلفق عنك الحكايات، ويتندر حولك في السهرات واللقاءات... لكن لابد أن تنقشع
الغمامة وتظهر حقيقة هؤلاء المدعين جلية... عند ذلك ستسقط الهالة التي يتغطون
بها...
فمتى نقدر على تقبّل الرأي الآخر حقاً وليس
المتاجرة بنظريات احترام الآخر وعدم إلغائه؟
فما
يحدث الآن على الساحة الأدبية الجزائرية يدعو إلى السخرية من أسماء كثيرة تملأ
البلاد بمحاضرات حول حرية الرأي وديمقراطية الحوار، إلا أنك ما أن تلفظ إسم عمل
يخصهم أو محاضرة من محاضراتهم دون تبجيل، حتى يسنّوا لك السيوف لذبح رأيك... ولابد
أن نعترف بمافيا الأسماء وبمافيا الشلليات.
فمن
البحث في صدق عاطفة الكاتب، إلى غياب عاطفة الناقد عن حضورها في الحيز المعرفي،
أقام النقد مؤخراً جنازة حفلة تأبين لكليهما... أما موت الكتابة وتحميل تبعات هذا
الموت على جنازة اللغة ذاتها، فيبدو المشهد الأدبي الجزائري حاسر الرأس في محاولة
يائسة للاقتران بما لا يقال شفاهة ولا يكتب لغة!
بالطبع
لا أحد يبحث عن عفة الكذب، ولكنه البحث الدائب عن عفة الكائن في كذبة مصورة لم
تتعلم القراءة والكتابة.
وهنا
يبرز دور النقد الجاد والنقد المختص والخبير، الذي يملك القدرة على التمييز
بين الغث والسمين، فغياب النقد الحقيقي وتجاوز أسسه الموضوعية والمنهجية أعطى
الفرصة لأنصاف الكتبة لأن يحاربوا الإبداع بما يشبه الإبداع، فمن يكتب قصيدة
التفعيلة أو قصيدة النثر عدو لدود لمن يكتب القصيدة التقليدية. ومن يكتب القصة
القصيرة العادية يحارب، ويقلل من شأن القصة القصيرة جداً (والعكس صحيح)، لأن
العداوة التقليدية بين أصحاب المدارس الأدبية علاقة تبادلية، كل يحارب الآخر ويقلل من
شأنه.
من
هذا المنطلق لابد للنقد من أن يسترد دوره، ولابد للنقاد الجادين من الخروج
عن صمتهم، وأن يشتغلوا على ردم الهوة بين المبدع والمتلقي، وأن يقضوا على
الخلل القائم في الإبداع ذاته، الذي غالباً ما يكون المتلقي ضحيته الأولى. ولابد أن
تفرز الساحة الأدبية الجزائرية نقاداً جدداً من الشباب المواكبين للحراك الإبداعي،
متجردين من المفاهيم الثابتة، وأن يمتلكوا أدوات نقدية منهجية، وقد طرحوا الخوف
جانباً.
فالحركة
الأدبية الجزائرية المعاصرة بأمس الحاجة إلى نقاد أكاديميين قادرين على
استئصال الأصوات النشاز وتشجيع الأصوات الأصيلة، التي تعرف كيف تتفاعل وتتعامل
مع عقل المتلقي وفكره، ولاسيّما أن أنصاف النقاد المعاصرين لم يجدوا شيئاً
يتناولونه بالنقد إلاّ توافه الأمور وأقلها شأناً، ليشاركوا في إشباع غرور
الغارقين في وهم النخبة المبدعة.
فالعمل الأدبي ذي
المواصفات المتدنية تؤثر سلباً في الذوق العام من جهة، ومن جهة أخرى تَحُولُ دون
تقدم أو رُقي الكاتب، لأنه يبادر بالنشر من غير تمعن لمستوى العمل، مما يجعله يشعر
بأنه وصل إلى الكمال، كما أن انتشار الأعمال الأدبية المتدنية تسول لغير المؤهلين
الخوضَ في المجال الأدبي تأسياً بمن خاضوه من غير علم أو موهبة.
لهذا ففي الدول
المتقدمة ثقافياً، يحرص الكاتب على أخذ آراء المختصين والمهتمين في الجانب الأدبي
المعني بالنشر قبل نشره، كما يتم أحياناً نقد العمل الأدبي قبل نشره في مجموعات
صغيرة من الكتاب والناقدين.
إن نقد العمل الأدبي
كما أنه يرفع من مستوى ذوق القارئ، فإنه أيضاً يساعد المؤلف على معرفة مواضع الضعف
في عمله الأدبي. والنقد الأدبي الذي يحاول الإضاءة على العمل الأدبي ببيان مواقع
الضعف والقوة فيه، فإنه بلا شك يساعد الكاتب على أكثر من صعيد منها أنه سيجعل
الكاتب حذرأ ومتحرياً الدقة في أعماله القادمة ومراعياً النقاط التي أشار اليها
الناقد. فلا أظن أن الكاتب الذي تساهلَ لغوياً أو إبداعياً في عمله السابق سوف
يتغاضى عن تلك النقاط في عمله اللاحق.
كما أن وجود الناقد
المختص (وإن حكم عليه الكاتب بغير ذلك) فإن الكاتب سوف يدرك أن أعماله سوف تُقرأ
ومن ثمَّ تخضع للتقييم. لهذا فإن قيام الكاتب بمهاجمة الناقد الذي يفصل بين العمل
الأدبي وبين شخصية الكاتب هو تصرف فيه نكران للجميل!
هناك فئة تتحاشى أو
لا تشجع الناقد في الخوض في عملية النقد الأدبي، وتنطلق تلك الفئة من الفكرة
الخاطئة مفادها بأن الكاتب سوف ينال شهرة ودعاية مجانية على عمله الأدبي بسبب
النقد الموجه له، وهذه النظرة القاصرة تنطلق من سوء فهم الهدف من النقد الأدبي،
والذي يتلخص في تقييم العمل الأدبي ونقده لإتاحة المجال لرقيه.
فالناقد المخلص لا
يضمر للكاتب أي سوء وليس ضد تقدمه أدبياً، كما أنه ليس ضد انتشار عمل الكاتب أو
يسعى لمنعه من الانتشار أو ضد اقتناء الناس له إن أرادوا، فالحقيقة التي لا بد من
فهمها أن النقد البناء سوف يرفع بلا شك من مستوى فهم ووعي الناس للعمل الأدبي.
فبفضل الناقد يرتفع
الوعي الثقافي بين عامة القراء ويصقل، فيكون كل من يشارك في العمل أكثر إدراكاً
وفهماً لمكونات العمل الأدبي سواء كان العمل الأدبي على هيئة رواية أو مسرحية أو
قصة أطفال. وهذا هو الهدف الأساسي من عملية النقد البناء الذي ينعكس إيجاباً على
الكاتب والناشر والمروج في آن واحد.
هذه الفكرة القاصرة
وغيرها من الأفكار الخاطئة حول النقد هي التي تجعل بعض الكتاب وخصوصاً المبتدئين
منهم لا يستوعبون عملية النقد ولا ينفتحون عليها.
لذلك،
وحتى يرتقي الإبداع ويتطور، ويأخذ مكانته المرموقة
لابد من مبدع يعرف أهمية دوره، مقتنعاً بإبداعه، مؤمناً برسالته، مضطلعاً
بمسؤوليته تجاه ما يكتبه وما يدافع عنه، مهتماً بتطوير أدواته.
ولابد
من ناقد أكاديمي متمرّس يشكل خلاصة ثقافة عصره ومعاصريه، يكون واسع الأفق موسوعي
المعرفة، متمكناً من أدواته، لا يخاف في الحق لومة لائم.
ولابد
من متلق يعشق الإبداع ويواكبه وينحاز إلى الجيد والمفيد منه.
وبتفاعل
العناصر الثلاثة بعيداً عن الهوى والأنانية وحب الذات... تتحقق جماليات وحدة
الإبداع، وينطلق من إطار المحلية الضيقة إلى آفاق أوسع وأرحب. فلابد من نزع
الأقنعة الزائفة...
فالطريق
وعرة وصعبة... مع ذلك ما زلت مصراً على المسير... لابد أن أفعل أنا ويفعل غيري...
أي لابد أن يأتي من يقول الحقيقة ويؤكد أنه ليس كل ما يلمع ذهباً... وأنا لا أخص
الساحة الأدبية فقط... بل إن هذا الزيف طال واستطال وشمل حتى الساحة الزراعية
والبحثية والسياسية...
ليس
كل من يجلس على كرسي هي له بالتأكيد... قد يكون الكرسي أكبر منه... وقد يكون الإسم
أكبر من وهمِ يغط كطائر الرخ على العقول، لكن سياسة الصمت هي السائدة منذ زمن بعيد
عند بعض الناس وذلك على مبدأ جحا عندما أخبروه أن النار في حارته... ثم في بيته
إلى أن أجابهم: على كل حال هي ليست في ثيابي...
ألا
ترون أنه كان على جحا أن يهرع لإطفاء النار قبل أن تمتد؟
بقلم: مصطفى قطبي
إرسال تعليق Blogger Facebook