بعد أن كان الإعلام العربيّ تجربة رائدة , و
صانعا هامّا لهمة الجمهور العربي , و مساهما فعليّا في توجيه الرأي العام العربي
للقضايا الكبرى التي تخصّ الأمة , و بعد أن كان الإعلام في طليعة ما يشغل الناس و
يثقفهم و يبث فيهم قيم الإسلام و العروبة و
الوطنية , و بعد أن كان في قمّة المهنية و المصداقية , و بعد أن تلألأ نجمه
في سماء الإعلام العالمي , و بعد أن كان مهنة كلّ متميز و مبدع , تفطن لدوره الذين
لا يحبون الخير للأمم العربية , و بثوّا بعض دسائسهم فيه , و مكّنوا لبعض الدخلاء
على الإعلام العربي , لكي يدنّسوه و يديروا وجهته في الوجهة التي يريدون , و ساهموا في تغلغلهم في الساحة الإعلامية , و
تقوية تموقعهم , و من ثمة تقوقعهم , أصبح
الإعلام العربي رهين بعض الممارسات الدخيلة , و التي لا تعود على الجماهير العربية
بالخير .
فالإعلام أكبر من الذي نراه
في الوقت الراهن من المستوى المتدنّي , فقد أخضع الإعلام خضوعا تامّا لبعض الجهات
, و حاد عن طريقه المنشود , فمن نقل الأخبار بحيادية و مصداقية , إلى صناعة
الأخبار و توجيهها بما يرضي هذا و ذاك , و من نقل الأخبار دون تزييف , إلى صنع
الرأي العام العربي ,
و شغله عن القضايا الكبرى التي تخصّ الأمة و محاولة صرفه
عنها , بشتّى الطرق و السبل , و هذا بقلب مفاهيم
الصحافة , و الإنسلاخ عن أخلاقيات المهنة
بما يرضي بعض العقليات الدخيلة ,
فأصبحت الأولوية لكسب القاعدة الجماهرية و لو بالطرق الملتوية , وكذلك تحقيق الكسب
السريع بأسهل طريقة , و لو على حساب المواضيع المطروحة , فقد حوّل بعض الإعلام
مفهوم الثقافة و الحضارة , و أودى بها إلى التقليد لكلّ ما هو غربي , و بين
التغريب تارة و التسييب , ضاعت معالم الإعلام العربي , الذي كان بالأمس مثلا يحتذى
, كما قام و يقوم نفس اللوبي الإعلامي بنشر الكثير من الممارسات الإعلامية الدخيلة
, محاولة منه لتكريس النكبة الإعلامية العربية .
و مما سأحاول تسليط الضوء عليه , بعض السموم التي ينشرها هؤلاء , كبثّ قيم
الطائفية و التفرقة و الإقتتال بين أبناء
الأمة الواحدة , و التطرف و التعصب , هذا في أواسط الفئة المثقفة و الطبقة
السياسية , و هكذا إنتقلوا به من الإعلام الهادف إلى الإعلام الناسف , الذي ينسف
مقومات الأمة , و بالتمييع و التغريب , و تزيين الرذيلة و و تشويه الفضيلة , و
تكريس الإنحلال الثقافي و الخلقي بالنسبة للفئات الناشئة , مثل هذا الإعلام المزيف و المكيّف , حسب ما
يرضي الجهات السابقة الذكر , وجبت محاربته و التصدّي له .
أشباه الإعلاميين , صيّروا مهنة
الصحافة , من مهنة الثقافة , إلى مهنة التهريج و السخافة , و زيّنوا للناس فيها
كلّ مرذول و آفة , و استجمعوا فيها كلّ بعيد عن الحقيقة , و كلّ أكذوبةٍ و إدعاءٍ
و خرافة , البعض من الإعلاميين , ترك
أبجديات مهنة الصدق و الحقائق , و تحوّل بها إلى التنمق و التملق , يغالي و ينافق
و يتشدق , بل إنّ منهم من تزندق , تركوا مكارم الأخلاق , و حوّلوا منابرهم إلى
أبواق , يمارسون فيها التلفيق , و التزييف و التحريف , و ديدنهم فيها النفاق , و
جعلوا منها أسواق , يحترفون فيها الكذب و النصب , و لو فتحنا عليهم باب التحقيق ,
و عرضناهم على محكمة الأخلاق , لأحلناهم إلى زنزانات انفرادية , أو إلى النفي خارج
هذا النطاق , نطاق الثقافة و الصحافة , كانوا لينالوا المؤبد عن جدارة و إستحقاق ,
لأنهم جناة بحق الصحافة و الإعلام , لذا
وجب علينا أن نوجه أقلامنا كسهام , في وجه بعض سماسرة الإعلام .
حولوها من مهنة الصحافة , و التي
هي مهنة البلاغة و الفصاحة , و الجرأة و
الشجاعة و الصراحة , إلى مهنة البلاهة و التفاهة و الوقاحة , طفوا مثل
الطفيليات في هذه الساحة , ساحة الإعلام الشريفة العفيفة , التي يفترض بنا
كإعلاميين أن نطهرها بأقلامنا , لكي تعود مثلما كانت , طاهرة نظيفة .
تركوا لملمة الأخبار , و
تحولوا إلى تجّار , همهم الوحيد هو الدينار والدولار , و عائدات الإشهار , ناهيك عن ممارسات الجوسسة و الإستخبار , و
أزاحوا كل ما يرمز للإبداع و الأفكار , و أقصوا النخبة , و كرسوا النكبة , ممارسين
الاحتكار , و فتحوا الباب لكلّ سمسار , و أوصدوه في وجه كلّ مغوار , يصدح برأيه
خارج سربهم , و يأبى تطبيق ما يملى عليه من أمرهم , و فتحوا عليه النار , و أطلقوا
في وجهه العنان لكلماتهم الضعيفة المهزومة , و صيروها من مهنة العلم و القلم و
المعلومة , إلى مرتع العلمنة و العولمة و العمولة , و جعلوها مصبّا للأفكار
المزعومة , و مسرحا للتمثيليات الموهومة , كما استولوا على المجال , و أخضعوه
لسلطان النفوذ والمال .
تخلوا عن الآراء , و
احترفوا الكذب على القرّاء , سماسرة الإعلام هؤلاء , روّاد الإدعاء , و الكذب و
الزور و الافتراء , جعلوا من المهنة النبيلة موضعا للتغليط , ومنبرا لكلّ لقيط , و
ساروا بها من مهنة التنوير إلى مهنة الظلام الحالك , و صنعوا لأنفسهم مجدا مفبرك ,
و أزاحوا الصالحين و الشرفاء , من الفقهاء
و أصحاب الاختصاص و النبلاء , و المنافحين عن الأمة و الصادقين و المقاومين
و الفصحاء , و تحولوا إلى غوغاء , و قدموا للناس أراذل القوم من المعتوهين و
المنحرفين و العملاء , على أنهم أهل الثقافة و الحضارة و الوفاء , و فوق هذا ترى
منهم كلّ الموالاة و الولاء , من أجل مصالحهم الشخصية , و هذا على على حساب ال
مهنية , و على حساب أخلاقيات المهنة, مهنة الإعلام , التي تتخبط تحت سنديان
ممارساتهم الدنيئة .
مثل هؤلاء
أشباه الإعلاميين , عندما يتقدم إليهم الشاب الحالم أملا في أن يجد مجالا لطرح
أفكاره و آرائه و إيصال انشغالات فئته من الشباب , يوصدون في وجهه كلّ الأبواب , و
عندما يطلب عمودا يدلي فيه بآرائه
يستكثرون فيه ذلك , لكن لمّا يغير هيئته بما يرضي العقلية الغربية , و يشرب
من كأس العولمة و العلمنة منهلا , كأولئك الذين و بحجة التعلّم, و بذريعة التقدّم
, تعلمنوا و تعولموا , لو اتبع هؤلاء المنسلخين عن جلدتهم , فلن يعترض طريقه شيء ,
بل يفتحون له كلّ الأبواب , و يمنحونه كل التشجيع , و يحتوونه و يحتضنونه .
وأيضا
لمّا يمسك الميكروفون , و يبدل كلمات الثقافة , بكلماء الفجور والسخافة , و ينهق
مثل الحمار , و يقيم مهرجانات الغناء ,
فسيمنحونه كلّ وقتهم و يفتحون آذانهم للإستماع , مكرسين التجهيل و التمييع , في
إطار الربح السريع , تحت غطاء التمتيع و الإستمتاع , و يقيمون له في كل مناسبة
اجتماع , و يكتبون له كمّا هائلا من الحوارات , يلمّون فيها بكلّ جديد عن
الألبومات , و يمنحونه كلّ أبواقهم لكي يزمّر فيها , و يعرضون تفاهاته في وقت
الذروة , بإسم الثقافة , فكلّهم آذان صاغية للمميِّعين بإسم الثقافة , لكن لمّا يتخذ الفكر مجالا لنشاطه , فهذا
خطير جدّا بنظرهم , و أيضا لمّا ينافح عن قضايا أمّته , فهذا شاذ في نظرهم ,
فالشاب لا يجب أن يكون منافحا في نظمهم الإعلامية , فليس من الثقافة في شيئ , و
أيضا لمّا يكتب الشعر , و يواسي به المهمشين و المظلومين , و لمّا يدعو إلى مكارم
الأخلاق , و لمّا يطرح انشغالاته في قالب إبداعي مميز , فالشاب عندهم يجب أن يلبس
اللباس الغربي , و يتخلى عن عباءة الثقافة , و يتغنى و يغنّي , و يشيد بدور الغناء
, و يراد للشباب أن يتفسخ عن عادات مجتمعه
, و أن يتعلمن و يتعولم , حتّى يحقق التقدم , و هذا طبعا في نظرهم , لكن هيهات ,
هيهات أن يثبطوا عزيمة العازم , و أن يقتلوا حلم الحالم , هيهات أن يشغلونا
بالتفاهات , هيهات أن يفتنونا بالقشور الثقافية و الحضارية , و يلهوننا عن قضايا
أمّتنا , و عن نهضتها المرجوة .
نراهم كلّ يوم
يخرجون علينا بمعاشر الموسيقيين و المغنين الذين لا مستوى لهم مع احتراماتنا ,
بحجة أنهم أمل الشبيبة و ممثلوها الرسميون , لكنهم يوصدون الأبواب في وجه المفكرين
و الشعراء و الصحافيين و المبدعين , مع العلم أنه شتان بين الثرى و الثريا , شتان
بين من يطلق العنان لصوته لينهق نهيق الحمير , و بين الذي يجّر قلمه على الصحف
البيضاء , ليزيدها بياضا بأفكاره , و ليبدع و يمتّع , مع العلم أنّ الثاني مهمته
أصعب بكثير من الأول , و رغم هذا , فإن
الثاني هو الذي سيفوز عاجلا أم آجلا , رغم كيد السماسرة , و حقد الحاقدين , و
الحواجز التي تعترض طريقه هنا و هناك .
نراهم أيضا
يحتقرون العلماء , فتراهم يمنحون للعالم ركنا صغيرا لكي يدلي فيه بعلمه , و يمنحونه
وقتا قصيرا في الصباح الباكر أو في الليل لمّا يخلد الناس للنوم , لكي يدلي بعلمه
سمعيا و بصريا , و يتبعون ذلك قائلين , فضيلة الشيخ فلان , كلمة أخيرة فالوقت
يداهمنا , لكنّ الوقت كاف للمغني لإجراء الحوار و قول ما يريد , و للغناء و الرقص
, و للراقصة لعرض رقصها , و للفاسد المفسد حتّى يُفسد , و إلى غير ذلك من الأمثلة
, و هذا طبعا في وقت الذروة , بقصد تشتيت جمع العائلة , التي تجتمع على مائدة
واحدة قبيل العشاء أو بعده , و المعضلة أنهم يلومون الناس على جهلهم , و الشباب
على تفريطهم .
لست ملزما بالتوضيح , فكلّ مدرك سيدرك بمجرّد التلميح ,
أن الساحة الإعلامية يجب أن تتطهر من السماسرة الذين لا علاقة لهم بالإعلام , ولكي
يعود إعلامنا إلى سابق عهده , علينا نحن الإعلاميون , أن لا نقف مكتوفي الأيدي ,
في ظل إعلام مميع , دون التعميم طبعا , لأننا نحترم الزملاء الإعلاميين الشرفاء و
الصامدين ممن مازالوا على التزامهم بأخلاقيات المهنة , لأن أصابع اليد تختلف , و
كذلك الناس و منهم الإعلاميون , لإنتاج إعلامي أفضل , يجب لإعلامنا أن يقف على
رجليه بعيدا عن ساحة السماسرة , و يجب أن نتّحد و نُقصي سماسرة الإعلام , الذين
أقصونا مع الإعلاميين الحقيقيين , و أحالونا على أروقة الهامش .
جمال الواحدي
إرسال تعليق Blogger Facebook