0
   بعد أن كان الإعلام العربيّ تجربة رائدة , و صانعا هامّا لهمة الجمهور العربي , و مساهما فعليّا في توجيه الرأي العام العربي للقضايا الكبرى التي تخصّ الأمة , و بعد أن كان الإعلام في طليعة ما يشغل الناس و يثقفهم و يبث فيهم قيم الإسلام و العروبة و  الوطنية , و بعد أن كان في قمّة المهنية و المصداقية , و بعد أن تلألأ نجمه في سماء الإعلام العالمي , و بعد أن كان مهنة كلّ متميز و مبدع , تفطن لدوره الذين لا يحبون الخير للأمم العربية , و بثوّا بعض دسائسهم فيه , و مكّنوا لبعض الدخلاء على الإعلام العربي , لكي يدنّسوه و يديروا وجهته في الوجهة التي يريدون ,  و ساهموا في تغلغلهم في الساحة الإعلامية , و تقوية تموقعهم , و من ثمة  تقوقعهم , أصبح الإعلام العربي رهين بعض الممارسات الدخيلة , و التي لا تعود على الجماهير العربية بالخير .

 فالإعلام أكبر من الذي نراه في الوقت الراهن من المستوى المتدنّي , فقد أخضع الإعلام خضوعا تامّا لبعض الجهات , و حاد عن طريقه المنشود , فمن نقل الأخبار بحيادية و مصداقية , إلى صناعة الأخبار و توجيهها بما يرضي هذا و ذاك , و من نقل الأخبار دون تزييف , إلى صنع الرأي العام العربي ,
و شغله عن القضايا الكبرى التي تخصّ الأمة و محاولة صرفه عنها , بشتّى الطرق و السبل , و هذا بقلب مفاهيم  الصحافة , و الإنسلاخ عن أخلاقيات المهنة  بما يرضي بعض العقليات الدخيلة  , فأصبحت الأولوية لكسب القاعدة الجماهرية و لو بالطرق الملتوية , وكذلك تحقيق الكسب السريع بأسهل طريقة , و لو على حساب المواضيع المطروحة , فقد حوّل بعض الإعلام مفهوم الثقافة و الحضارة , و أودى بها إلى التقليد لكلّ ما هو غربي , و بين التغريب تارة و التسييب , ضاعت معالم الإعلام العربي , الذي كان بالأمس مثلا يحتذى , كما قام و يقوم نفس اللوبي الإعلامي بنشر الكثير من الممارسات الإعلامية الدخيلة , محاولة منه لتكريس النكبة الإعلامية العربية .
و مما سأحاول تسليط الضوء عليه , بعض السموم التي ينشرها هؤلاء , كبثّ قيم الطائفية و التفرقة و الإقتتال  بين أبناء الأمة الواحدة , و التطرف و التعصب , هذا في أواسط الفئة المثقفة و الطبقة السياسية , و هكذا إنتقلوا به من الإعلام الهادف إلى الإعلام الناسف , الذي ينسف مقومات الأمة , و بالتمييع و التغريب , و تزيين الرذيلة و و تشويه الفضيلة , و تكريس الإنحلال الثقافي و الخلقي بالنسبة للفئات الناشئة  , مثل هذا الإعلام المزيف و المكيّف , حسب ما يرضي الجهات السابقة الذكر , وجبت محاربته و التصدّي له .
    أشباه الإعلاميين , صيّروا مهنة الصحافة , من مهنة الثقافة , إلى مهنة التهريج و السخافة , و زيّنوا للناس فيها كلّ مرذول و آفة , و استجمعوا فيها كلّ بعيد عن الحقيقة , و كلّ أكذوبةٍ و إدعاءٍ و خرافة ,  البعض من الإعلاميين , ترك أبجديات مهنة الصدق و الحقائق , و تحوّل بها إلى التنمق و التملق , يغالي و ينافق و يتشدق , بل إنّ منهم من تزندق , تركوا مكارم الأخلاق , و حوّلوا منابرهم إلى أبواق , يمارسون فيها التلفيق , و التزييف و التحريف , و ديدنهم فيها النفاق , و جعلوا منها أسواق , يحترفون فيها الكذب و النصب , و لو فتحنا عليهم باب التحقيق , و عرضناهم على محكمة الأخلاق , لأحلناهم إلى زنزانات انفرادية , أو إلى النفي خارج هذا النطاق , نطاق الثقافة و الصحافة , كانوا لينالوا المؤبد عن جدارة و إستحقاق , لأنهم جناة بحق الصحافة و الإعلام  , لذا وجب علينا أن نوجه أقلامنا كسهام , في وجه بعض سماسرة الإعلام .
   حولوها من مهنة الصحافة , و التي هي مهنة البلاغة و الفصاحة , و الجرأة و  الشجاعة و الصراحة , إلى مهنة البلاهة و التفاهة و الوقاحة , طفوا مثل الطفيليات في هذه الساحة , ساحة الإعلام الشريفة العفيفة , التي يفترض بنا كإعلاميين أن نطهرها بأقلامنا , لكي تعود مثلما كانت , طاهرة نظيفة .
     تركوا لملمة الأخبار , و تحولوا إلى تجّار , همهم الوحيد هو الدينار والدولار , و عائدات الإشهار ,  ناهيك عن ممارسات الجوسسة و الإستخبار , و أزاحوا كل ما يرمز للإبداع و الأفكار , و أقصوا النخبة , و كرسوا النكبة , ممارسين الاحتكار , و فتحوا الباب لكلّ سمسار , و أوصدوه في وجه كلّ مغوار , يصدح برأيه خارج سربهم , و يأبى تطبيق ما يملى عليه من أمرهم , و فتحوا عليه النار , و أطلقوا في وجهه العنان لكلماتهم الضعيفة المهزومة , و صيروها من مهنة العلم و القلم و المعلومة , إلى مرتع العلمنة و العولمة و العمولة , و جعلوها مصبّا للأفكار المزعومة , و مسرحا للتمثيليات الموهومة , كما استولوا على المجال , و أخضعوه لسلطان النفوذ والمال .
        تخلوا عن الآراء , و احترفوا الكذب على القرّاء , سماسرة الإعلام هؤلاء , روّاد الإدعاء , و الكذب و الزور و الافتراء , جعلوا من المهنة النبيلة موضعا للتغليط , ومنبرا لكلّ لقيط , و ساروا بها من مهنة التنوير إلى مهنة الظلام الحالك , و صنعوا لأنفسهم مجدا مفبرك , و أزاحوا الصالحين و الشرفاء , من الفقهاء  و أصحاب الاختصاص و النبلاء , و المنافحين عن الأمة و الصادقين و المقاومين و الفصحاء , و تحولوا إلى غوغاء , و قدموا للناس أراذل القوم من المعتوهين و المنحرفين و العملاء , على أنهم أهل الثقافة و الحضارة و الوفاء , و فوق هذا ترى منهم كلّ الموالاة و الولاء , من أجل مصالحهم الشخصية , و هذا على على حساب ال مهنية , و على حساب أخلاقيات المهنة, مهنة الإعلام , التي تتخبط تحت سنديان ممارساتهم الدنيئة .
     مثل هؤلاء أشباه الإعلاميين , عندما يتقدم إليهم الشاب الحالم أملا في أن يجد مجالا لطرح أفكاره و آرائه و إيصال انشغالات فئته من الشباب , يوصدون في وجهه كلّ الأبواب , و عندما يطلب عمودا يدلي فيه بآرائه  يستكثرون فيه ذلك , لكن لمّا يغير هيئته بما يرضي العقلية الغربية , و يشرب من كأس العولمة و العلمنة منهلا , كأولئك الذين و بحجة التعلّم, و بذريعة التقدّم , تعلمنوا و تعولموا , لو اتبع هؤلاء المنسلخين عن جلدتهم , فلن يعترض طريقه شيء , بل يفتحون له كلّ الأبواب , و يمنحونه كل التشجيع , و يحتوونه و يحتضنونه .
       وأيضا لمّا يمسك الميكروفون , و يبدل كلمات الثقافة , بكلماء الفجور والسخافة , و ينهق مثل الحمار , و يقيم مهرجانات الغناء  , فسيمنحونه كلّ وقتهم و يفتحون آذانهم للإستماع , مكرسين التجهيل و التمييع , في إطار الربح السريع , تحت غطاء التمتيع و الإستمتاع , و يقيمون له في كل مناسبة اجتماع , و يكتبون له كمّا هائلا من الحوارات , يلمّون فيها بكلّ جديد عن الألبومات , و يمنحونه كلّ أبواقهم لكي يزمّر فيها , و يعرضون تفاهاته في وقت الذروة , بإسم الثقافة , فكلّهم آذان صاغية للمميِّعين بإسم الثقافة  , لكن لمّا يتخذ الفكر مجالا لنشاطه , فهذا خطير جدّا بنظرهم , و أيضا لمّا ينافح عن قضايا أمّته , فهذا شاذ في نظرهم , فالشاب لا يجب أن يكون منافحا في نظمهم الإعلامية , فليس من الثقافة في شيئ , و أيضا لمّا يكتب الشعر , و يواسي به المهمشين و المظلومين , و لمّا يدعو إلى مكارم الأخلاق , و لمّا يطرح انشغالاته في قالب إبداعي مميز , فالشاب عندهم يجب أن يلبس اللباس الغربي , و يتخلى عن عباءة الثقافة , و يتغنى و يغنّي , و يشيد بدور الغناء ,  و يراد للشباب أن يتفسخ عن عادات مجتمعه , و أن يتعلمن و يتعولم , حتّى يحقق التقدم , و هذا طبعا في نظرهم , لكن هيهات , هيهات أن يثبطوا عزيمة العازم , و أن يقتلوا حلم الحالم , هيهات أن يشغلونا بالتفاهات , هيهات أن يفتنونا بالقشور الثقافية و الحضارية , و يلهوننا عن قضايا أمّتنا , و عن نهضتها المرجوة .
 نراهم كلّ يوم يخرجون علينا بمعاشر الموسيقيين و المغنين الذين لا مستوى لهم مع احتراماتنا , بحجة أنهم أمل الشبيبة و ممثلوها الرسميون , لكنهم يوصدون الأبواب في وجه المفكرين و الشعراء و الصحافيين و المبدعين , مع العلم أنه شتان بين الثرى و الثريا , شتان بين من يطلق العنان لصوته لينهق نهيق الحمير , و بين الذي يجّر قلمه على الصحف البيضاء , ليزيدها بياضا بأفكاره , و ليبدع و يمتّع , مع العلم أنّ الثاني مهمته أصعب بكثير من الأول  , و رغم هذا , فإن الثاني هو الذي سيفوز عاجلا أم آجلا , رغم كيد السماسرة , و حقد الحاقدين , و الحواجز التي تعترض طريقه هنا و هناك .
    نراهم أيضا يحتقرون العلماء , فتراهم يمنحون للعالم ركنا صغيرا لكي يدلي فيه بعلمه , و يمنحونه وقتا قصيرا في الصباح الباكر أو في الليل لمّا يخلد الناس للنوم , لكي يدلي بعلمه سمعيا و بصريا , و يتبعون ذلك قائلين , فضيلة الشيخ فلان , كلمة أخيرة فالوقت يداهمنا , لكنّ الوقت كاف للمغني لإجراء الحوار و قول ما يريد , و للغناء و الرقص , و للراقصة لعرض رقصها , و للفاسد المفسد حتّى يُفسد , و إلى غير ذلك من الأمثلة , و هذا طبعا في وقت الذروة , بقصد تشتيت جمع العائلة , التي تجتمع على مائدة واحدة قبيل العشاء أو بعده , و المعضلة أنهم يلومون الناس على جهلهم , و الشباب على تفريطهم .
لست ملزما بالتوضيح , فكلّ مدرك سيدرك بمجرّد التلميح , أن الساحة الإعلامية يجب أن تتطهر من السماسرة الذين لا علاقة لهم بالإعلام , ولكي يعود إعلامنا إلى سابق عهده , علينا نحن الإعلاميون , أن لا نقف مكتوفي الأيدي , في ظل إعلام مميع , دون التعميم طبعا , لأننا نحترم الزملاء الإعلاميين الشرفاء و الصامدين ممن مازالوا على التزامهم بأخلاقيات المهنة , لأن أصابع اليد تختلف , و كذلك الناس و منهم الإعلاميون , لإنتاج إعلامي أفضل , يجب لإعلامنا أن يقف على رجليه بعيدا عن ساحة السماسرة , و يجب أن نتّحد و نُقصي سماسرة الإعلام , الذين أقصونا مع الإعلاميين الحقيقيين , و أحالونا على أروقة الهامش .
جمال الواحدي

إرسال تعليق Blogger